يكتسِبُ الحقُّ قوةً ذاتيةً من تلقاء نفسه، نظراً لاعتماده :
1) على الفِطرة السليمة : التي من الحقِّ صِيغَتْ، ومن الهُدَى تشكَّلَتْ.
2) على العقل الراشد : الذي من الحقِّ اكْتسَبَ الأهْلِيةَ لتحمُّل الأمانة.
3) على الله تعالى مصْدر الحق : فالله تعالى هو الحَقُّ، وهو خالقُ الفطرة المنْقَادة للحق، وخالِقُ العَقْل الخاضِع للْحق، وهو ناصِرُ أهْل الحقِّ بالحقِّ، وهو مُدَمِّر أهْل الباطل بالحق، عِندما تحِينُ ساعَةُ الحَسْمِ المُعْجِزَةُ للْخَلْقِ بالحَقٍّ.
فلهذا كانَ أهْلُ الحَقِّ دائماً مُسْتَكِينين للحق، سُعدَاءَ به، مُطْمئِنِّين لحُسْن المآلِ والمَصِير :
> سواءٌ كانوا مُتَمكِّنِين في أرْضِ الله بالحَقِّ لِيُقِيموا شريعة الله وعَدْلَهُ بَيْن الناسِ بالقِسْطاس، وليَحْمُوا كَرامَة الإنسان وحُقُوقَه منأن يحيفَ عليها الحائِفون، أو يجورَ عليها الجائِرون.
> أو سَوَاءٌ كانوا في حالة المِحنة والابْتِلاء سِجْناً وضَرْباً وتعذيباً وفضحاً وإهانةً واستهزاءً وتنْكِيلاً وطَمْراً في الدّهاليز والسَّراديب،… فالله تعالى يُثَبِّتُهم ويربطُ على قلوبهم ليغيظ بهم الكفار، ويُخزي بهم الفجّار، ويُمَحّصَهم ليستحقوا اقتعاد منازِل الأبرار.
> أو سواءٌ كانوا في باحَة المحاكم المحْبُوكَةِ تجسُّساً وتخابُراً وتُهَماً وتأويلاً للنّوايا والأفكار، وتهييئاً للقضاء والدفاع وشهداء الزور… فاللّه تعالى ولِيُّهُم وحَامِيهم {إنَّ اللهَ يُدَافِعُ عنِ الذِينَ آمَنُوا}(الحج : 38) وماا تفعَلُ ولايَةُ الشَّيطان أمام ولاية الرحمان؟!
> أو سواء كانوا في ساحة الحصارِ والتجويع فالله يُطعمُهم ويسقيهم ويَشْفيهم.
> أو سواء كانوا في مواقف الشَّنْق والخنْق والاستشهاد، فهم لا ينتظرون إلاّ أن يُقال لهم : ادخلوا جنةَ الخلود التي نسمة واحِدةٌ منها تُنسِي كُلَّ متاعِب الدُّنيا وويلاتها وابتلاءاتِها.
ولهذا -أيضا -كان أهْلُ الباطل دائماً منهزمين أمَامَ أهْل الحقِّ حُجَّةً وبُرهاناً وثباتاً وصُمُوداً، فيلجأون إلى التستُّر على هزائمهم وخَيْبَاتِهِم ووَحْشياتهم :
1) باخْتراع الفلسفَات والمذاهب والسياسات : التي ظاهِرُها الرحمة وباطنُها العذاب.
2) باختراع وسائل الإعلام المُضَلِّلَة : التي تُلْهي الشعوب عن مصالحها الحقيقية.
3) باختلاق الأحزاب : التي تُكوِّن الأجواق المطبِّلة والمُزَمِّرة للزعامات الجوفاء.
4) بشراء الذِّمَمِ : المستعِدّة لبيع المبادئ والضمائر بدون حياء، وبدَعْوى مُسَايَرة الواقع. واستباق الفُرص حتى لا يَفُوتَ قِطَارُ الاستسْلام والانْبطاح.
5) بالانقضاض بوحشية على أصحاب المبادئ لتصفيتهم جسديّاً تحت دعَاوَى عريضةٍ من التشويه والمسخ.
لماذا أهْلُ الباطل يفعلون بأهْل الحقّ ما يفعلون؟!
< أوّلا : لأنّهم مُصابون بالغرور : الذي يُخَيِّلُ لهُم أنّهم مخْلُوقُون من طينةٍ غَىْر التي خُلِق منها كُلّ الناسِ، فَهُمْ ورِثوا النقاء الدّمَويّ الذي جعَلَهُم فصائل مختارةً بدون نزاع، ومفضَّلة على النّاس بدون نقاش، ومُسَلَّطةً على رقاب الناس وأموالهم وحقوقهم قدراً مقْدُوراً، وقضاءً أزليا ممْهُوراً.
فهذه العنصريّة الدّمويّة أو العِرقيّة أو الجنسيّة كم خَرّبَتْ من حضاراتٍ، وكم أهانتْ من كرامات، وكمْ أنشأتْ مِن صراعات، وكم أزهقَتْ من أرواح الملايين البشريّة؟! لا لشيء إلا لتثْبِيت فَوْقِيّة الجنْسِ الأبيض على الجنس الأسود، أو فوقيّة الشمال على الجنوب، أو فوقية الجنس الآريّ على غيره من الأجناس، أو فوقيّة الجنس السامي على غيره من الأجناس، أو فوقية الدّم الفرعوني، أو الكسرَويّ، أو القيصَريّ على غيره من الدِّماء؟!
خرافَاتٌ وأساطير عَفَّتْ عليها الحضارة الإسلامية أيام ألقِها وازْدِهارها، ولكن المسلمين ارْتَكسُوا في المستنقَع الآسِن، وجَدَّدُوا إحْيَاءَ العَصبيّة العرقية والنسبية المنتنة فلسلط الله عليهم همج التتار، وعفن الصّليبيِّين، وشراسَة العلمانيين والملحدين، ورِجْسَ العَوْلميّين أخيراً، ليُعلّموهم كيف يكُون المسْخُ للإنسانية!! وكيف يكون النّزْع للهُويَّة!!، وكيف يكون السَّلْخُ للذاتيّة!! وكيف يكون الافتراسُ للمبادئ الحضارية الأصيلة!!.
< وثانيا : لأنهم فارغون : ليس لديهم مشروع حضاريٌّ يخْدُم المبادئ في تجَرُّدٍ ونزاهةٍ، ويخدُمُ المصالح العليا للإنسان في الحال والمآل، فهم نَرْجسيُّون حوْلَ الذات يتَمَحْوَرُون، ولخدْمة الأغراض والمصالح الخاصة يتجهون، فأي مشروع كان عند فرعون عندما قال لقومه {هَل لكُم مِن إِلَهٍ غَيْرِي؟!}(القصص : 38)، وأي مشروع كان عند أبرهة حينما اتجه إلى هَدْم الكعبة؟ وأي مشروع كان عند كسرى يوم مزَّق رسالة رسول الله إليه؟! وأي مشروع كان عند هولاكو؟! وأيّ مشروع كان عند أبي جهل يوم قتل سُميّة خياط رضي الله عنها ويوم حاصر المسلمين في الشِّعب ثلاث سنين؟! وأيُّ مشروع عند هؤلاء الذي يُجوِّعون الشعب الفلسطيني ويقتلونه؟! ويقتلون الأفغانييّن والعراقيِّين؟!.
لاشيء عند هؤلاء إلا التطاوُلُ على الله تعالى وعلى المستضعفين من عباده عُلُوّاً في الأرض وفساداً، فهُم من الصنف الذين قال الله تعالى فيهم {ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُك قوْلُه في الحَيَاةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللّهَ على ما في قَلْبِه وهُو ألَدُّ الخِصام وإذَا تَوَلّى سَعَى في الأرْضِ ليُفْسِدََ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنّسْل واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ وإذاً قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّه أخَذَتْهُ العِزَّةُ بالإِثْمِ فَحَسْبُه جَهَنَّمَ وبِيسَ المِهَاد}(البقرة : 204).
فهم لفراغِهم يضربُون بشراسة، ويقتُلون المعارضين بوحشية، حتى لا يجد المستضعفون المسحوقون وقتا للرّدّ عليهم، أو مجابهتهم، أو التجميع لإبطال سِحْرهم، أو إيجادِ الوسائل الإعلامية والاقتصادية والعلمية لإحداث التوازُن والتكافؤُ المطلوبَيْن في مقارعة الحجة بالحجة، والفكر بالفكر، وفي كفاحِ الظُّلْم بالعدْل، والبُهْتانِ بالبرهان.
فبماذا يسترون العَوْرات الفكرية الهابطة؟! وبماذا يَسْتُرون التهافُتاتِ السافلة؟! والتصرُّفاتِ الشائنة؟! والتديُُّّنات الزائفة؟! والمرجعيات المهزوزة؟! والموازين المكسورة؟!.
لاشيء أقْتَلُ وأفْضَحُ لهؤلاء من الإسلام!!
لأنَّه : ذو مرجعية ربّانيّة شاملة معصومة من التراوغ والتضليل.
ولأنه : ذو شريعة قائمة على صيانَةِ عقْلِ الإنسان وعِرْضه ونَفْسِه ومالِه، وذلك أجْمَلُ ما في الإنسان.
ولأنه : ذو عدَالةٍ فريدة لا تفرق بين القريب والبعيد، ولا بين العدو والصّدِيق.
ولأنه : ذو أخلاق إسلامية عالية لاتُبيح للمسلم أن يغتاب أخاه أو يسخرمنه، بل لا تُبيح له أن يظُن به ظن السَّوْء، فما بالُك بظلمه والتعدي عليه؟!
ولأنه : يحفظ حقّ الغَيْر ويصُون كرامَتَه ومعتقداته بدون تطاول أو امتنان.
ولأنه : ذو موازين عادلة لا تصنِّفُ الناس َ حسبَ الأعراق والألوان والأوطان ولكن تصنِّفُهم حسَبَ الأعمال الصالحة البنّاءة، وحسَب الخشية من الله تعالى ومراعاته في السّر والعلانية، لأن الخشية هي العاصم من الولوغ في الأعراض والأموال.
< وثالثا : لأنهم لا يُجيدوُن الحسابَ مع الله تعالى : والسَّبَبُ في ذلك أنهُمْ عَبدُوا أنفسهم وأهواءهم وشهواتهم فكَبُروا في أعْيُن أنفسهم حتّى ظَنَّوا أنفسهم أرباباً من دون الله يُحاسِبُون غيرَهُم ولا يحاسَبُون، ويسألون ولا يُسألون ويُعاقِبون ولا يُعاقَبُون، يتألَّهُون ولا إله فوقَهُم، فهم أكْثر جهْلاً بالله تعالى، فكيْفَ يحسبُون له الحساب، وكيف يتَدبَّرون الوقوف بين يديه يوم العرض عليه وهُم يجْهَلُون المآب؟! هذه قصة واحدٍ من الجُهلاء بربِّهم ترَكَها الله لنا نموذجاً معروضاً للاعتبار، قال ابن اسحاق : >لمّا التقى الجيشان ببدر ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل : اللهُمَّ أقْطَعُنا للرّحِم، وآتَاناَ بِما لاَ يُعْرَف فأحِنْه الغَدَاة، فكان هُو المُسْتفْتِحُ< أي كان هو الحاكم على نفسه بهذا الدّعاء، حيْث طلب من الله تعالى إهْلاك الظالم القاطع للرحم، وقدْ كان هو الظالم القاطع للرحِم، ولكنه لا يشعر، فقال له الله تعالى {إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُم الفَتْح}(الأنفال : 19).
فهل فراعنة العَصْر يعرفون الله تعالى سريع الحساب؟! وهلْ يعرفون أن للفلسطينيين ربّاً يحميهم ويطعمهم ويسقيهم؟ وهل يعرفون أن للأفغانيِّين ربّا سيقتلع جذور الظلمة من على أراضيهم؟.
وهل يعرفون أن لبيْت المقدس ربّاً يحمي مُقَدّساته؟!
وهل يعرفون أن للمسجونين المهانين المقهورين ربّاً يثبتهم ويصون مبادئهم ومستقبلهم؟! وهلْ يعرفون أن للمصاحف المُداسِ عليها بالأقدام الغليظة ربّاً يُدَمِّر المستهزئين بدين الله تعالى ورسله وعباده الصالحين؟!.
إن هؤلاء الجاهلين برب العالمين يحتاجُون إلى انتفاضة إيمانية على غِرار انتفاضة رجُل ياسين الذي قال : {ومَا لِيَ لاَ أعْبُد الذِي فَطَرنِي وإِلَيْه تُرجعُون}(يس : 22) وعلى غرار مومن آل فرعون الذي قال : {ويَا قَوْمِ مَالِيَ أدْعُوكُمْ إلى النّجَاةِ وتَدْعُونَنِي إلَى النّارِ}(غافر : 41) فإذا تجمَّعَتْ من أمثال هؤلاء فئةٌ قليلةٌ على غرارِ فئة طَالوت الذين قالوا : {ربَّنَا أفْرِغْ غَلَيْنَا صَبْراً وثَبِّتْ أقْدَامَنا وانْصُرْنَا عَلى القَوْمِ الكَافِرين}(البقرة : 250) آنذاك سلامٌ على جواليتِ وطواغيت الأرض، مهما عَلَوْا وتكبَّروا، وسَطَوْا وتجبَّرُوا، فقد وُجِدَ من يتسلّم مفاتيحَ التمكين، لإنقاذ البشرية من رِجْسِ الظالمين.