إن أي إنسان عندما يقترب من الله تعالى بجناح الولاية أو البر والتقوى يرى في أماكن القرب منه تعالى ألوية محمد وهي تتموج هناك، وما خطا أحدهم خطوة في مدارج الرقي إلا رأى آثار أقدامه .
من الخطأ أن نظن أن تربية رسول الله اقتصرت على تزكية النفوس، إذ أنه أتى بنظام شامل للتربية يخاطب العقل والروح والقلب. والحقائق القرآنية الشاملة تفعل الشيء نفسه. فالرسول يخاطب العقل ويحضه ويشوقه، ويصل بهذا العقل ذي البعد الوحيي إلى الحد النهائي للعقول. ثم يتناول الروح ليسمو به إلى مراتب أعلى بكثير من المراتب التي يستطيع أن يصل إليها أي متخصص في التربية، ويأخذ بالقلب إلى العوالم التي يشتاق إليها ويهفو.. ثم يتناول مشاعر الإنسان ولطائفه الأخرى ليرتفع بها أيضاً إلى عوالم يتعثر فيها الخيال.. وبعد أن ارتفع بأرواح وعقول وقلوب تلاميذه وطلابه فتح أمامهم أبواب المؤسسات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والعسكرية والسياسية، لأنه أتى برسالة تستطيع أن تربي فتحصل على أفضل رجال الإدارة والاقتصاد والسياسة، وعلى أكمل القواد العسكريين… أجل، لقد جاء رسول الله برسالة شاملة فيها الاقتصاد والمال والإدارة والتعليم والتربية وفيها أحكام العدل والقوانين الدولية… الخ. والخلاصة أنه أتى برسالة تحتضن كل ضرورات التقدم، ذلك لأنه لو كان هناك أي نقص في أي ناحية من نواحي رسالته لما تحققت الغاية من إرساله، يقول النبي في حديث له :
(إن مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي كمثل رحل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)(1)
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: 3). أي أن جميع الأنبياء والأصفياء والأولياء كانوا يقولون : متى يتم هذا البنيان؟ فأنا أرسلتك نبياً كاملاً لتكملة هذا البنيان، وكما رضيت لكم هذا الدين فقد أقمته على الأسس التي يرضى الناس عنها.
من معالم عظمته في التربية
أجل، لقد جاء النبي لتكملة النواقص، والذين يحاولون البحث والتفتيش عن نقص في رسالته، عليهم أولاً أن يبحثوا عن الثغرات الموجودة في عقولهم وفي قلوبهم.. لقد قام النبي بمهمة التتمة والتكملة وبمهمة الإصلاح والبلوغ إلى الكمال… كان عليه تعديل كل عوج. وإصلاح كل نقص، وتكملة كل قصور.. وقد أنجز هذا وأتمه. نستطيع أن نشاهد عظمة أي شخص مرب في المسائل الآتية:
> أ- الـسـمـوّ بالروح والنفـس والعقـل
الأول هو السمو بروح الإنسان ونفسه وعقله، والبلوغ بها إلى أعلى نقطة يمكن الوصول إليها. والتأريخ يشهد أن الرسول استطاع أن يحقق هذا في أصحابه وفي المنتسبين إليه بعون من الله تعالى..
يأتي ذكر النفس الأمّارة في القرآن الكريم… هذه النفس التي تضع العراقيل والعثرات أمام سمو الإنسان وتحاول الضغط عليه للحيلولة دون هذا السمو. فبدلاً من إنسان حقيقي مشتاق إلى عالم الروح، تجعله إنساناً يهتم بمتطلبات جسده فقط. وقد التجأ سيدنا يوسف عليه السلام إلى الله تعالى من هذه النفس {إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي} (يوسف: 53). إن النفس بطبيعتها أمّارة بالسوء، إلا أنه من الممكن التخلص من الوقوع في بئرها العميق عمق بحيرة لوط، والارتفاع مرحلة فمرحلة إلى أعلى وإلى الذروة، والقرآن يشير إلى أوضاع النفس هذه إذ يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ` اِرجعي إلى ربك راضية مَرضيّة} (الفجر: 27-28).
كما يشير القرآن إلى حالة تتحول فيها النفس من النفس الأمّارة بالسوء إلى …النفس اللوّامة، أي النفس التي تحاسب نفسها. ولأنه يعد هذه النفس مرتبة معينة، فإنه يقسم بها و{لاأقسم بالنفس اللوّامة} (القيامة: 2).
ثم هناك …النفس الصافية وهي صفة النفس لدى المقربين، وأصحاب هذه الصفة تتجلى فيهم الشفافية والنقاء والصفاء إلى درجة أن الذين يشاهدونهم يتذكرون الله تعالى. وكانت نفس محمد من هذا النوع. كما استطاع تحويل العديد من أصحاب القابليات وأصحاب الكفاءات إلى هذه المرتبة بدرجات مختلفة كل حسب قابليته واستعداده. لقد استطاع الرسول -بعون الله- بالتربية المستمرة للنفس وتزكيتها إيصالها إلى أعلى هدف تستطيع النفس الإنسانية بلوغه. وهذا يبرهن على أنه كان مربياً لا مثيل ولا نظير له. وعندما نتفحص عهده نرى أنه لم يدع أي ثغرة تربوية في موضوع السمو بالعقل والنفس والارتفاع بهما إلى الذروة.
—-
1- البخاري، المناقب، 18، مسلم، الفضائل، 20- 23، المسند، للإمام أحمد 257/2، 398.
محمد فتح الله كولن