3- محاور التدافع في شعر القرضاوي 2/1
الملاحظ في هذا الصدد أن الشاعر في هذا المسعى يركز على اتجاهين اثنين أكثر من تركيزه على غيرهما، وهما :
أ ـ اتجاه داخلي.
ب ـ اتجاه خارجي.
أما الاتجاه الداخلي فيجسده في عنصرين اثنين :
>1 ـ الأحزاب العلمانية والشيوعية :
ذلك أن الشاعر في هذا الإطار سعى إلى إبراز الأجواء السياسية التي كانت تحبل بها الساحة المصرية إبان تلك الفترة ـ فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ـ والتي كانت لها الغلبة ولا شك، فلم تكن لتقبل بمن ينافسها في الساحة السياسية فكريا ولا أيديولوجيا، فكيف إذا كان المنافس ينطلق من منطلقات دينية محضة، ويراها البديل الحق لقيادة المجتمع وإصلاح أحوال الناس العامة والخاصة، وهوما كان يدعوإليه الشاعر ويستميت في الدفاع عنه مهما كلفه ذلك من ثمن، خاصة وأنه أدرك بأن هذه الأحزاب لا تُكِنُّ العداء له شخصيا، وإنما تعادي كل العداء ما يؤمن به، كتابَ الله وسنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول مثلا :
وثُلَّةُ الهدْمِ في السُّفْلَى مَوَاقُعُهُمْ
صَبَّوا عَلَيْكَ الأَذَى بَغْياً وَ عُدْوَاناَ
تَرْمِيكَ بِالإِفْـكِ أَقْلامُ وَ أَلْسِنَةُ خَـانَتْ
أمانتها يا بِئْسَ مَـنْ خَانَا
وتنشر الزورَ أحزابٌ مُضَلِّلَةٌ
تَغْلِي صدورهمُ حِقْداً وكُفْرانَا
كَذَاكَ لا بُـدَّ لِلْبَنَّاءِ مِنْ حَجَرً
يُصِيبُهُ أويصـيبُ الطِّينُ أَرْدَانا
ولَمْ نَلُمْهَمْ فهذا كله حَسَـدٌ
والغَلُّ يُوقِدُ في الأحشاء نِيرانا (7)
فيكفي تأمل المعجم الشعري الذي وظفه الشاعر لإدراك مقاصده : الإفك ـ الزور ـ الحقد ـ خانت ـ ترميك ـ الغلّ، وكأن الشاعر يستوحي الماضي البعيد الذي كانت تتردد فيه الاتهامات نفسها حين كان يُكاد للأنبياء والرسل والدعاة إلى الله، والتي تتكرر على نفس النهج والوتيرةمع تغير في الزمان فقط، بل إن الشاعر أحيانا يستحضر أسماء بأعينها كان لها تاريخ أسود في إذاية الرسول صلى الله وعليه وسلم والصفوة من السابقين إلى الإسلام من أهل مكة المكرمة أومن أهل المدينة المنورة، يقول :
نشكوإلـى الله أحزابا مضللة
كـم أَوْسَعُونَا إشاعاتٍ وبهتانا
مازال فينا ألوفٌ مِنْ أَبي لَهَبٍ
يُؤْذُونَ أهلَ الهدَى بَغْياً ونُكْرانا
ما زال لابْنِ سَلُولٍ شِيعَةُ كَثَرُوا
أَضْحَى النِّفَاقُ لهم وَسْماً وَعُنْوَانا ( 8)
فالإشاعات والافتراءات التي كان يُرمَى بها الشاعر وغيره في تلك الفترة من القرن الماضي حين كان المد الشيوعي ساحقا، هي من جنس ما كان يقال عن المسلمين السابقين الأوائل في هذه الأمة لإسلامية، مع اختلاف بسيط في الصياغة فقط، فقد كان يقال سابقا لأتباع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام : أراذل ورعاع وسفهاء ومجانين وصابئة وغير ذلك، وفي هذه الفترة التي يتحدث عنها الشاعر، شاعت أوصاف الرجعية والسكونية والإقطاعية والغيبية وغيرها من الأوصاف أيضا.
ولكن الملاحظ من هذه الأبيات السابقة، أن الشاعر كان يشعر بقوة الطرف الآخر بما توفر لديه من الوسائل، وما يتلقاه من الدعم الداخلي والخارجي وبخاصة الاستعماري منه، لأن كثيرا من الدول الإسلامية آنئذ كانت مستعمرة، ولا يخفى كيد الاستعمار في هذا المجال بما يوفره لعملائه من دعم هائل بمختلف الوسائل الظاهرة والباطنة، يقول :
فالقـومُ يَخْشَـْونَ انتِفَاضَةَ دِينِناَبعد الجمود وبعد نَوْمِ قُرُونِ
يخشون ” يَعْرُبَ ” أن تَجُودَ بخالدٍ
وبِكُلِّ ” سَعْدٍ ” فاتِحٍ مَيْمُونِ
يخشون ” أفريقيا ” أن تجودَ بِطَارِقٍ
يَخْشَـوْنَ تُرْكِياًّ كَنُورِ الدِّينِ
يخشون ديـنَ الله يَرْجِعُ مَصْدَراً
للفكر والتوجيه والتَّقْنِينِ (9)
فالشاعر يصرح بأن هناك حملة شعواء ليس في مصر وحدها ـ في تلك المرحلة ـ وإنما في أغلب الدول الإسلامية المغلوبة على أمرها، حيث كان عدوها الأول ـ الاستعمار وعملاؤه ـ يسعى جاهدا لسلخها عن ماضيها المشرق المضيء، ماضي خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وطارق بن زياد ونور الدين محمود وسواهم من أمجاد المسلمين، وإدخالها في أتون الأفكار المستوردة والحلول الوضعية الجاهزة على المقاس الغربي الاستعماري.
>2 ـ الصراع مع حكومات مصر خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي :
وهذا العنصر الداخلي الثاني نال قسطا وافرا من شعر الشيخ يوسف القرضاوي حين كان يعاني في السجون المصرية إبان الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي،كما سبقت الإشارة، خاصة وأنه كان يعيش التعذيب اليومي بمختلف أنواعه، مما كان يدفع فيه روح التحدي والثبات، مع صب كل غضبه على حكام مصر في تلك المرحلة، في جرأة ظاهرة تتناسب مع شدة وطأة البطش الذي كان يمارس عليه في السجون المختلفة وفي عهود حكومات متعاقبة آنئذ، يقول :
نونِيَّة والنـون تحلوفـي فَمِي
أَبَداً فَكِدْتُ يُقَالُ لي ” ذُوالنُّونِ ”
صَوَّرْتُ فِيها ما اسْتَطَعْتُ بِرِيشَتي
وتـركتُ للأيـام مـا يُعْـيِينِي
ما هِمْـتُ فيها بالخيـال فإن لي
بِغَرَائِـبِ الأَحـْداث مـا يُغْنِينِي
أحداثُ عَهدِ عِصَابَةِ حَكَمُوا بَنِي
مِصْرٍ بِـلا خُـلُقٍ وَ لا قَانـون
أَنْسَتْ مظالِمُهُمْ مَظَالِمَ مَنْ خَلَوْا
حَتَّى تَـرَحمَّـْنَا عـلى ” نَيْـرُونِ ”
حَسَبُوا الزَّمَان أَصَمَّ أَعْمَى عَنْهُمُ
قَـدْ نَـوَّمُـوهُ بِخُـطْبَةٍ وطَنِينِ (10)
وقد صور الشاعر كثيرا من تجليات تلك المظالم والمعاناة التي كانت تتولد عنها في ديوانَيْه معا، من ذلك مثلا قوله في قصيدة عنوانها ” هجمة الجند “، وقد قدم لها بقوله : ” في معتقل (هايكستب ) ـ وهومعسكر خلفه الاحتلال البريطاني قريبا من القاهرة ـ في سنة 1949، فوجئنا في ظهيرة أحد الأيام بهجمة شرسة قامت بها قوة كبيرة من الجنود ـ الذين كانوا يطلقون عليهم ( بلوك النظام ) ـ مسلحين بالهراوات الغليظة والسياط يقودهم ضباط غلاظ شداد، وانهالوا علينا ضربا وجلدا، لغير سبب نعرفه، وفينا الشيخ الكبير والمريض والضعيف، ثم انصرفوا بعد أن تعبوا، وكأنهم انتصروا على العدوفي معركة! فكانت هذه القصيدة من وحي تلك الهجمة.” وفيها :
قـلْ للطغاة الحاكمين بأمـرِهِمْ
إِمْهَالُ رَبِّـي لَيْسَ بِالإِهْمَـالِ
إن كـان يَوْمَكُمُوصَحَتْ أَجْوَاؤُهُ
فَمَـآلُكُمْ والله شَـرُّ مَـآلِ
سَتَدُورُ دائـرة الـزمان عَلَيْكُمُو
حَتْمًا، ويَأْذَنُ ظِلُّكُمْ لِـَزَوالِ
سَتَرَوْنَ مِنْ غَضَبِ السماوات العُلا
وإِذَا غَضِبْنَ فَمَا لَكُمْ مِنْ وَالِ
وتُزَلْزَلُ الأَرْضُ التي دَانَتْ لَكُـْم
يَوماً وما أَعْـَتاهُ مِـنْ زِلْزَالِ!
اَلْبَغْيُ فـي الدنيا قصـيٌر عُمْـرُهُ
وإن احْتَمَى بالجند والأموال
يا جُـنْدَ فرعـونَ الذين تَمَيَّزُوا
بِبَذِيءِ أقـوال وسـوء فِعَالِ
لا تحسبوا التعذيب يُخْمِـدُ جَذْوَتِي
مَا ازْدَدْتُ غيرَ تمسكٍ بِحِبَالِي
إن تَجْلِـدُوا جَسَدِي فَحْسْبِيَ أُسْوَةٌ
إِيـذَاءُ عَمَّـارٍ وجَـلْدُ بِلالِ
ضَرْبُ الرجالِ وهم أُسَارَى
قَيْدِهِمْمِـنْ شِيمَةِ الأَوْغَادِ لا الأَبْطَالِ
وَ اللَّيْثُ ليـس يَعِـيبُهُ إِيـذَاؤُهُ
مـا دام في الأقْفَاصِ وَ الأَغْلالِ
يا قادرين على الأَذَى لِـيَ هَلْ لَكُمْ
أَنْ تَسْتَطِيعُوا سَـاعَةً إِذْلالِـي؟!
اَلجِْسْمٌ قَدْ يُؤْذَى وليس
بِضَـائِرٍنَفْساً تَعِزُّ عَلَى أَذَى الأَنْذَالِ! (11)
فالشاعر يعاين الأمور عن قرب، ويفهم الأشياء وغرائب الأحداث من الداخل، فهوضحية تَصَوُّرِ تلك الحكومات المصرية آنئذ في النظر إلى الأشياء وتقديرها للوقائع من حولها، وتَصدُر عن رؤية معينة في تعاملها مع خصومها السياسيين، فكانت كما قال الشاعر تنظر من زاوية أبعد ما تكون عن الخلُق والقانون، وبالتالي فهي أضرب في الظلم والطغيان، حتى لكأن ” نيرونَ ” روما في زمانه،كان على مرضه بالتَّلَذُّذِ بآلام الآخرين، أرحمَ من خصوم الشاعر في محنته وسجنه!!
والملاحظ أن التاريخ يظل مسيطرا على خيال الشاعر في كل مراحل ديوانَيْه، ويستثمره عن طريق المقارنة الصريحة بين الأحداث وصانعيها في أغلب النصوص، فكما أنه قارن بين محن الأنبياء ومن اتبعهم من المستضعفين السابقين ومحن الشاعر وغيره في بلاد المسلمين، وقارن بين الاستبداد القديم والحديث، فإنه قارنَ هنا، كما أسلفت، بين ظلم من نوع وظلم من نوع آخر، وإن كانت النتيجة التي تتمخض عنهما كليهما واحدة في كل الأحوال، لذلك نجد الشاعر يُفَصِّل في هذا المجال كثيرا لتأثره البالغ بما مورس عليه في السجن من مختلف ألوان التعذيب والإذلال، يقول :
وهُنا بَدَا البطل الهُمـامُ منفذا لِمخطط التَّبْشِيرِ والماسُونِ
لِيُسَدِّدَ الضرباتِ في عَنْفٍ إلى أقـوى بنـاءٍ للدُّعاة مَتِينِ
ليقول للـرُّقَبَاءِ قَـرُّوا أَعْيُناً أنا باقْتِلاعِ الأُسِّ جِدُّ قَمِينِ
وكذاك قامَ ” كَمَالُهُمْ ” في تُرْكِيَّالِيَُطـارِدَ الإسلام كالمجنون
واليوم سَارَ ” جَمَالُهُمْ ” في خطه بتدرج وتَخَابُـث ملعونِ
إلى أن قال :
وإذا رَئِيسُهُمُويَرَى في نَفْسِهِ مَلِكَ الملوك وَوَارِثَ الفِرْعَوْنِ
في نَفْسِهِ ودِمَائِهِ ” أَنَا رَبُّكُمْ “لا تَجْعَلُوا رَبًّا لَكُمْ مِنْ دُونِي (12)
فالشاعر يرى بأن المنهج الذي كان يصدر عنه الحاقدون على الإسلام منهج واحد، ليس في مصر فقط وإنما في كافة بلاد المسلمين، وتركيا نموذج لذلك، فكما أن القوى المختلفة داخلية وخارجية سعت سعيها الحثيث لإسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا أواسط العشرينيات من القرن الماضي حتى تم لها ما أرادت، فكذلك في الفترة التي يتحدث عنها الشاعر،كانت قوى مختلفة تسعى بكل ما أوتيته من قوة لضرب أهم قواعد بلاد المسلمين علميا وفكريا واقتصاديا، وهي مصر.
وما كان يحز في نفس الشاعر أكثر من سواه، هوأن الغرب يخطط، والمنتسبون إلى الإسلام ينفذون، خاصة وأن هذا الغرب أدرك جيدا بأن التدخل المباشر في العالم الإسلامي كان يؤول دائما إلى الفشل طال الزمن أمْ قصر، لذلك فإنه لجأ إلى اختيار سبيل آخر يكون له فيه شريك من بلاد المسلمين أنفسهم، لتبدومخططاته عن بعد، وكأنها مما ينادي به مُتَنَوِّرُوالمسلمين ومُنَظِّرُوهم، قصد التحرر من الماضي ومن سيطرة المتعاليات والغيب على أذهان المسلمين البسطاء!! وهذا ما نتج عنه تصدع في البيت المسلم الذي تداعت أركانه في أتون الفتن والصراعات التي لا تكاد تعرف النهاية، والغرب يتابع الأحداث مرتاح البال ما دام هناك من ينفذ مبتغاه نيابة عنه خير تنفيذ، يقول :
في كل أرض أرى الإسلام في خطرٍ
مِـنْ أهلـهِ وبَنِيهِ قبل أعـداهُ
تفـرقوا شيـعاً والكـفر مجتمع
واليومَ يبدوالذي قَدْ كان أخفاهُ
فاجمعْ إلَـهي شملَ المسلمين على
هُـدَاك وانْصُرْ لِمَنْ للدين وَالاهُ
يا إخوتي ليسَ لي مِنْكمْ سوى طلبٍ
هلْ يَخْذُلُ الأخُ من في الله آخاه (13)
وفي مقام آخر قال :
الذَّنْبُ ذَنْبُ بني الإسلام مُذْ بَعُدُوا
عن منهج الله أضحى أمرهم فُرُطَا
قد خاصموا الله إذ خانوا شريعته
وقَـلَّ إِنْتَاجُهُمْ إذْ أكْثَرُوا اللَّغَـطَا
تفـرقـوا شيعاً شـتى وأنظمةً
إذ لَـم يَعُدْ حبْلُهُمْ بالله مُرْتَبِـطَا
عِقْـدُ الخلافة قَبْلاً كان يَنْظِمُهُمْ
واليومَ عِقْدُهُمُوقَدْ بَاتَ مُنْفَـرِطَا
اِسْتَوْرَدُوا من ديار الغرب فلسفة
أَشْقَتْ بَنِيهِ،وحَلَّتْ كُلَّ مَا رُبِـطَا
يا ناشدا للهدى في الغرب مَعْذِرَةً
إنالهدى حيث وَحْيُ الله قَدْ هَبَطَا
من رَامَ شَهْداً فإن النَّحْلَ مصدَرُهُ
ومَنْ بَغَى السُّمَّ فَلْيَطْلُبْ لَهُ الرُّقُطَا (14)
هكذا نظر الشيخ إلى الجبهة الداخلية التي عاداها بقدر ما عادته عداءً شديداً، حيث كان إحدى ضحاياها بعقيدته وفكره، عارضها ووقف ـ بلا كلل ولا استسلام ـ دون ما كانت تُرَوِّجُ له وتدعوإليه، وما كانت تريد فرضه على المجتمع والناس، فكان أن ناله من بطشها وعذابها ما دأب على تصويره والتعبير عنه في قصائد مختلفة، كما يظهر فيما قدمناه من النماذج أعلاه.
———
7 ـ نفحات ولفحات، ص 36.
8 ـ نفسه، ص، 44.
9 ـ نفسه، ص، 65.
10 ـ نفسه، ص، 54.
11 ـ المسلمون قادمون ص، 11 ـ 12.
12 ـ نفحات ولفحات، ص 66.
13 ـ نفسه، ص، 102.
14 ـ المسلمون قادمون، ص، 32.
د.بنعيسى بويوزان