2- تلازم المحنة والمنحة في شعر القرضاوي
د. بنعيسى بويوزان
وما يلفت النظر ، أن الشاعر أعار من الاهتمام لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام أكثر مما أعاره لغيره من الأنبياء ، وظني أن هذا الاهتمام آت من عدة أمور ، أهمها ثلاثة :
1- كون اسم الشاعر ” يوسف ” هونفسه اسم نبي الله ” يوسف ” عليه الصلاة والسلام ، ووجه التبرك والتفاؤل في هذا السياق واضح لا شك فيه ، وهوما كان يدفع في نفسه اطمئنانا نفسيا داخليا لا حدّ له وهويخوض تجربة السجن والمحن التي كانت تبعث فيه الثقة الكاملة في الله عز وجل ، لكي تنتهي بما انتهت إليه مع ” يوسف ” عليه السلام ، وهذا الكلام لا ينبغي أن يحمل على أنه وضع للشاعر ويوسف عليه السلام في مستوى واحد !! ، وإنما المقصود ، هوأن الشاعر كان يستلهم قصص الأنبياء ومحنهم على اختلافهم وعلى اختلافها ، إلا أن تجربة الشاعر تبعث في نفسه استحضار خطوات يوسف عليه السلام ، والاهتداء به في الصبر على البلوى داخل السجن والتصميم على الدعوة إلى الله داخله أملا في أن تكون النهاية متشابهة.
2- أن مسرح وقائع محنة الشاعر ، ومحنة يوسف عليه السلام مسرح واحد ، هوأرض مصر ، مما بعث في نفس الشاعر روح الإحساس بتكرار المآسي وفق نموذج متكرر ومتشابه لما عاناه يوسف عليه السلام ، وفي مكان واحد هومصر، مع اختلاف شاسع في الزمن ، لذلك يبدوالشاعر أكثر استئناسا بقصة النبي يوسف عليه السلام وتجربته ، مع الطموح إلى أن يمن الله سبحانه عليه بالفرج الذي منَّ به على نبيه حين أخرجه من السجن ، ومكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
3- أن يوسف عليه الصلاة والسلام ، هوالنبي الوحيد الذي قص الله عز وجل بتفصيل قصة سجنه ومعاناته فيه سنين عددا في القرآن الكريم ، مما حمل الشاعر في اعتقادي على التركيز عليه وعلى تجربته عليه السلام بخاصة ،لأن السجن وما يستتبعه ، كان الوسيلة الأهم التي جوبه بها يوسف عليه السلام في صراعه مع الفراعنة ، وهي الوسيلة نفسها التي مورست على الشاعر في صراعه مع الأنظمة المصرية السابقة خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ، والتي كثيرا ما أطلق عليها لقب الفراعنة ، كما يظهر في الأبيات أعلاه ، وفي سواها كثير مما سيأتي، وفي كلتا الحالتين يظهر للشاعر صراع الحق والباطل ، والضلال والهدى وإنْ بنسب متفاوتة ، لأن يوسف عليه السلام كان يجسد الصراع المرير بين الإيمان الحق والكفر الصريح ، ب! ينما الشاعر مع الأنظمة المصرية السابقة المشار إليها أعلاه ، يجسد الصراع بين الاستقواء والاستضعاف في الأرض ، لأن كلا الطرفين مسلمٌ على أي حال ، يقول :
وانْظُرْ ليوسفَ إذْ عَادَاهُ إخوتُهُ
فَجَرَّعُوهُ مْنَ الإِيذَاءِ أَلْوانَا
رَأْوهُ شَمْساً وهُمْ في جَنْبِهِ سُرُجٌ
رَأَوْا أباهمْ بهذاالنور وَلْهَاناَ
فَـدَبَّـرُوها بِظَلـماءٍ مؤامـرةَ
لِيُبْعِـدُوا عنه وَجْـهًا كـان فَتَّاناَ
أَلْقَـوْهُ في الجب لم يَرْعَوْا طفولته
باعوه كالشاة لـم يَرْعَوْا لَهُ شَاناَ
وعاش يوسف دَهْراً يخدم امرأة
عَبْداً ،وكان له في السجن ما كانا
فَإِنْ يَكُنْ نَسْلُ يعقوبٍ كذا فَعَلُوا
فـلا تَلُمْ نَسْلَ فـرعون وهامانا
وَ دَعْ أَذَاهُمْ وقل موتوا بِغَيْظِكُمُفَ
الْغَرْبُ مَوْلاكُمُووَ الله مَوْلاناَ(1)
إن مصدر محنة يوسف عليه الصلاة والسلام آتية من إخوانه ، مع أنهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، وهم من بيت النبوة ، فكيف بمن يرث ما يرث من بيت فرعون وهامان ؟! فلا ضير إذن على الشاعر، فعزاؤه عزاء من سلف ، والعبرة في ما آلت إليه تجاربهم.
وأحيانا نجد الشاعر يستحضر محن كثير الأنبياء ، فيصل الحاضر بالماضي على صعيد واحد من الأذى والبطش ، فلا يجد ملاذايلوذ به غير الله عز وجل ، داعيا ومبتهلا أن يكشف الضر عنه وعن سائر المبتلين والمستضعفين من المسلمين ، كما كشفه سبحانه عمن اصطفاه من الأنبياء والمرسلين ومن صدق بهم من المستضعفين السابقين الذين عاصروهم ، ليجمع الشاعر بين محن هؤلاء الأنبياء والمرسلين ومن آمن بهم صفا واحدا ملتحما ، في مواجهة الصف الآخر الذي يعمل دائبا على الحيلولة دونهم وما يريدونه من تبليغ دعوة الله عز وجل ، رغم الفواصل الزمنية الشاسعة التي تفصل بين كل قرن من هذه القرون المتعاقبة من الصراع بين الحق والباطل، في أزمنة وحقب مختلفة اختلاف الوسائل والظروف ، مع توحُّدٍ تام في ا! لأهداف والغايات عند كل طرف من هذين الطرفين المتناقضين تمام التناقض ، يقول :
يا من أجبيت دعاءَ نوحٍ ” فَانْتَصِرْ ”
وحملْتَهُ فـي فُلْكِكَ المشحُونِ
يا مـن أَحَـالَ النارَ حَوْلَ خَلِيلِه
رَوْحاً ورَيْحَاناً بِقَوْلِكَ ” كُونِي ”
يا من أمَرْتَ الحوتَ يَلْفِظُ يُونُساً
وسَتَـرْتَهُ بِشُجَيْرَةِ الْيَقْطِـينِ
يا رب إنـَّا مِثْـلَهُ فـي كَـرْبِهِ
فَارْحَمْ عِبَاداً كُلّهُمُ ” ذُوالنُّونِ “(2)
فمن الواضح أن الشاعر يضع تلازما واضحا بين المحنة والفرج ، وبين الضيق والسعة ، لأن العنصر الأول من الطرفين يستتبع الثاني منهما ضرورةً ، ويؤدي إليه بالتأكيد ، كما يتضح مع تجربة كل نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى ، ورسله عليهم الصلاة والسلام ومحنهم في أقوامهم ، كما يظهر من خلال النماذج الآتية التي أحال عليها الشاعر:
أ ـ محنة نوح عليه السلام ـــ النتيجة : نجاته في الفلك المشحون.
ب ـ محنة إبراهيم عليه السلام ـــ النتيجة : نجاته بتحول النار بردا وسلاما.
ج ـ محنة يونس عليه السلام ــــ النتيجة : نجاته من بطن الحوت بإذن الله.
وبذلك تكون النتيجة من هذا كله ، أن المحنة التي انتابت الأنبياء، لها بداية تبدأ بها ولها نهاية تنتهي إليها ، ليبدأ بعد ذلك الفرج ، ويحل محل الشدة دون أن تدول دولة المحنة بعدها. وكأن الشاعر يستحضر هذا القانون الإلهي الذي يحكم المبلِّغ والمبلَّغ إليه معا ، فهما ليسا بمنأى عن الابتلاء والمحن ، ماداما يشقان بنور الله سبحانه أسجاف الظلام في الأرض ، فالدعوة إلى الله تضحية وقَرْحٌ يعقبهما نصر وتمكين ، كما قال في بيته السابق :
صبرا أخي في محنتي وعقيدتي
لا بُـدَّ بعْدَ النصر من تمَكِينِ
وبعد أن أكد الشاعر على هذه القاعدة التي يشترك فيه الماضي والحاضر ، ويتبع الخلف فيها سبيل السلف الصالح في كل زمان ومكان ، سعى إلى الانكباب على الحاضر للكشف عن معاناته الشخصية في الدعوة إلى الله ، وما لقيه من سجن وتعذيب في السجون المصرية خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ، حين كانت الأيديولوجيات الحاقدة على الإسلام والمسلمين هي السائدةعهدئذ.
———–
1 ـ نفحات ولفحات ، ص 36.
2 ـ نفسه ، ص 69.