1- ثقافة الرحمة في الإسلام
{وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون}(سبأ : 34)
{إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز}(المجادلة : 20)
{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}(الأنبياء : 28)
عن سلمان الفارسي ] قال : قال رسول الله : “إن الله خلق، يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة(1).
وعن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : “لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده : إن رحمتي تغلب غضبي(2).
فالله عز وجل الرحمان الرحيم، خلق الخلق والكون بالرحمة، ولهدف أن تسود الرحمة بين أفراد المخلوقات، وبينهم وبين أحياء الكون وأشيائه.
الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء (3).
لقد خلق الله تعالى الانسان من طين وروح : {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}(ص : 70-71)
الطين يشد الإنسان إلى الأرض، إلى المائدة بكل ثقلها ومغرياتها، بل وبنزواتها، وكل ذلك حافز مهم على عمارة الأرض واستخراج خيراتها، وتجميلها، أي أن ذلك لحكمة، والروح تشده إلى السماء بكل تطلعاتها، وأشواقها، وسموها، من أجل تحقيق التوازن بين مطالب المادة ومطالب الروح.
في نفس الآن، كرم الله الانسان، وخلق من أجله كل مقدرات الكون.
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا}(البقرة : 28).
{وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}(الجاثية : 12)
وحمَّل الانسان أمانة الرحمة في الحياة : الرحمة بنفسه، وبالآخرين، وبالأحياء والأشياء.
{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان}(الأحزاب : 72)
وليقوم الانسان بعبء حمل الأمانة على أكمل وجه، زوده الله تعالى بطاقة عقلية ووجدانية لها اتجاه وشوق نحو الرحمة، ونحو الاستقامة بحاسة، سماها الله عز وجل، الفطرة : “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جمعاء(4)، هل تُحِسون فيها من جَدعاء(5)؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(الروم :29)(6).
ولضمان سلامة الفطرة من الآثار السيئة للمحيط الاجتماعي، ولتنشيط فعاليتها، لم يشأ الله تعالى الرحمان الرحيم أن يهمل الانسان على الأرض، وإنما تَفقًَّده بالرسالات السماوية المتتالية المتضمنة لعبادة الله تعالى في كل الحركات والسكنات.
{وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56).
وذلك كلما دعت الحاجة منذ أول رسول، آدم عليه السلام حتى آخرهم : محمد بن عبد الله مرورا بمئات الرسل بينهما : {فإما ياتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(البقرة : 37)
{فإما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}(طه :122)
إن الرسالات السماوية أو الدين بمكوناته الثلاث : العقيدة والشريعة والأخلاق، تعمل على تقوية الفطرة في اتجاهها، وفي أشواقها، وفي قيامها بمهمة الرحمة، بل وفي إنقاذ الانسان من الوهدة التي قد تصيبه عندما يختل التوازن بين الطين والروح، حيث يتدخل عدو الانسان المتربص إبليس اللعين بواسطة النفس الأمارة بالسوء، لأن اللعين أقسم أمام الله عز وجل أن يوسوس بالشر لبني آدم، ليحرفهم عن سواء السبيل : {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}(ص : 81)
{فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أَيْمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}(الأعراف : 15-16).
إلا أن تكريم الله تعالى للإنسان يجعل مواقفه وسلوكاته ناتجة عن وعي وإرادة، يُبتلى بالمحتملات، ويختار من بينها بأخلاقية، مستجيبا لدواعي الفطرة، ولتوجيهات الدين. {إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}(الانسان : 2-3) {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}(الشمس : 8-10).
الدين بموازاة الفطرة هو مصدر ثقافة الرحمة في حياة الانسان، وهو بالتالي، مصدر حضارة الرحمة، التي تعطي الانسان أدواته المتعددة لصناعة الرحمة وتعميمها على المخلوقات، بعيدا عن صناعة التدمير.
إن ثقافة الرحمة تـــرتبط بالتوحيد : حيث يؤمن الانسان بالله تعالى ربا يخلق ويدبر أمور الانسان والكونوحيث يؤمن به كذلك إلهًا يعلم كل شيء، ويحكم طبيعيا وتشريعيا، ويجازي على العمل في الدنيا وفي الاخرة بالعدل والإحسان، ويميز في الجزاء بين الانسان الصالح والانسان الفاسد المفسد.
{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}(الأنعام : 161).
{أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}(القلم : 35- 36).
{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}(الجاثية : 20).
وأيضاً، حيث يتعبد الانسان لله تعالى وفق المنهج الذي وضعه الله عز وجل للعبادة بمعناها الخاص، الذي يعني الشعائر، فتزكو نفس الإنسان بالصلاة والصيام والزكاة وما إليها، ويزداد خيره ورحمته : {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}(العنكبوت : 45)، {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}(التوبة : 104).
ومن ثم، يحيا الإنسان حياته كلها عابداً لله تعالى بالمعنى العام للعبادة، الذي يعني التزام المنهج الشامل للحياة الذي أنزله الله عز وجل على رسله عليهم الصلاة والسلام، في المعاملات المالية وغيرها، وفي العلاقات الداخلية والخارجية، مع المسلمين ومع غير المسلمين، ومع الأحياء كلهم، ومع البيئة : {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}(البقرة : 206)، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظلمُون}(البقرة : 277- 278).
>إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها<(7).
—————
1- صحيح الإمام مسلم، رقم 2753.
2- صحيح الإمام مسلم، رقم 2751.
3- سنن الترمذي، رقم 2006.
4- ليس فيها نقص عضوي، وليس فيها عيب.
5- مقطوعة عضو، معيبة.
6- صحيح الإمام مسلم، رقم 2658.
7- مجمع الزوايد ج 4، ص 108، رقم 6236 وهو صحيح، والفسيلة : النخلة الصغيرة.
د.محمد الحبيب التجكاني