5- فتوى ابن عرضون
لا يفتأ الذين يتحدثون اليوم عن حق المرأة في السعاية يذكرون ابن عرضون وفتواه المشهورة في هذا الشان.فما مضمون هذه الفتوى؟ وأي العرضونيين أفتى بها؟.
أشير بدءا إلى أن فتوى ابن عرضون في السعاية فتوتان : إحداهما خاصة والأخرى عامة.
< فأما الخاصة: فهي مرتبطة بأفراد معينين، وأعمال معينة وحالة معينة، فهي متعلقة بحكم عمل نساء البادية، اللواتي يعملن في الحقل عمل الرجال من حرث وزرع وحصاد ودراس… حالة وفاة أزواجهن، هل لهن من ذلك شيء أم لا؟
لقد حكم لهن ابن عرضون بأخذ نصيب في الزرع وغيره بقدر عملهن بعد مراعاة وسائل الإنتاج الأخرى من أرض وآلة وبقر… ونص الفتوى ذكرها العلمي فقال: “سئل أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن بن عرضون عمن تخدم من نساء البوادي خدمة الرجال من الحصاد والدراس وغير ذلك، فهل لهن حق في الزرع بعد وفاة الزوجلأجل خدمتهن أو ليس إلا الميراث؟
فأجاب: الذي أجاب به الشيخ القوري مفتي الحضرة الفاسية شيخ الإمام ابن غازي قال: “إن الزرع يقسم على رؤوس من نتج عن خدمتهم. زاد عليه مفتي البلاد الغمارية جدنا سيدي أبو القاسم خجو على قدر خدمتهم وبحسبها من اتفاقهم أو تفاوتهم، وزدت أنا – لله عبد- بعد مراعاة الأرض والبقر والآلة، فإن كانوا متساوين فيها أيضا فلا كلام وإن كانت لواحد حسب له ذلك والله تعالى أعلم”(126).
قال الدكتور محمد التاويل بعدما نقل الفتوى عن العلمي: “فهي كما ترى فتوى محدودة جدا في مكانها وموضوعها وأهلها، فهي أولا خاصة بنساء البادية دون الحاضرة، وبالنساء العاملات عمل الرجال في الفلاحة دون غيرهن ثم هي خاصة بالزرع الذي يحصدنه ويدرسنه دون غيره من الأموال”(127). وهذا الكلام غير مسلم، بل الفتوى شاملة بالإضافة إلى الزرع، غلل الأشجار كالزيتون والعنب وغيرها، وهو ما صرح به ابنعرضون نفسه حيث قال: “ولا فرق في ذلك بين الزرع والزيتون لكون السؤال وقع عن العنب وغيره، ولا بين من تعاطى خدمة وغيره يتعاطى أخرى”(128).
وهذه الفتوى كما ترى لم يسبق إليها ابن عرضون، وإنما هو مسبوق إليها -وإن أضاف إليها إضافات- فقد أفتى بها القوري وأبو القاسم خجو، وغيرهما من الفقهاء المتقدمين كما يذكر أحمد البعل(129).
< وأما العامة: فهي تعم جميع الأعمال، وجميع الحالات، وإن كانت هي الأخرى خاصة بفرد معين. فهي فتوى تعطي المرأة العاملة مع زوجها – كيفما كان هذا العمل- نصف ما عملت فيه في جميع الحالات سواء في حالة الطلاق أم الوفاة(130). فإذا كانت الفتوى السابقة تقتصر على الزرع وغلة الأشجار دون باقي الأعمال التي تؤديها الزوجة، وتختص بحالة الموت فقط، فإن هذه الفتوى تشمل كل الأعمال التي تؤديها ولا تختص بالموت فقط بل تشمل حتى الطلاق.
لكن السؤال المطروح، من أفتى بهاتين الفتوتين؟ هل هو محمد بن الحسن ابن عرضون؟ أم هو أحمد بن الحسن ابن عرضون؟ أم هما معا؟ أم كل واحد منهما يختص بواحدة؟ أم غيرهما؟.
فأما الفتوى الأولى والتي سميتها الخاصة، فقد ذكرتها بعض المصادر، واختلفت في صاحبها:
- فبعضهم نسبها لابن عرضون من غير تحديد كما فعل أبو زيد الفاسي في عملياته إذ قال:
قال ابن عرضون لهن قسمه
على التساوي بحساب الخدمه(131)
- وبعضهم نسبها لأبي العباس أحمد ابن عرضون،(132)كما فعل شارح العمل محمد بن قاسم الفلالي، فقد قال: “وكلام ابن عرضون الذي يمكن أن يتضح به المراد لم أظفر به في اللائق”(133)، ومعلوم أن اللائق إنما هو كتاب أحمد بن عرضون.
- ونسبها آخرون لأبي عبد الله محمد ابن عرضون(134)، كالمهدي الوزاني(135).
- ونسبها العلمي لأبي عبد الله محمد ابن الحسن ابن عرضون مرة(136). وللحسن ابن عرضون مرة أخرى(137).
وإني أعتقد أن ما ذكر في نوازل العلمي مننسبة الفتوى إلى الحسن ابن عرضون إنما هو سقط وليس بخلط كما ذهب إلى ذلك الدكتور عمر الجيدي رحمه الله(138)، فما كان للشريف العلمي -وهو من هو- أن يخلط في نسبة فتوى مشهورة لشخصين مختلفين: محمد بن الحسن بن عرضون، والحسن بن عرضون(139)ويؤيد هذا: أن المهدي الوزاني نقل الفتوى عن الشريف العلمي. ولم يذكر فيها الحسن ابن عرضون، وإنما ذكر مكانه محمد بن الحسن بن عرضون(140)، فلعل النسخة التي وقف عليها الوزاني خالية من السقط الذي ذكرته والله اعلم.
أما الفتوى الثانية والتي سميتها بالعامة فقد قال عنها عمر الجيدي: “إننا لم نعثر على نص الفتوى، لكن نستند في تحليلها إلى العرف الذي صار عليه أهل الجبال من لدن صدور الفتوى إلى الآن”(141). وقال أيضا بأن المعتمد في نقلها هو الرواية الشفوية قال: “لم أعثر على نص الفتوى التي أفتى بها ابن عرضون… وتواردت الإشارات إليها بصفة عامة في بعض كتب الفقه والنوازل… وتناقلها الناس مشافهة منذ صدورها إلى الآن”(142). غير أن الأستاذ سعيد أعراب ذكر في بحث له بجريدة الميثاق العدد 48 و 50 أنه وقف على فتوى لأبي العباس أحمد ابن عرضون قال n ولعلها بخط يده- تذكر أن للمرأة النصف في مال الزوج إذا وقع طلاق أو وفاة بشروط شرطها وحدود حدها”(143)، وإليه نسبها كذلك الدكتور عمر الجيدي(144)، وأضاف بأنه لم يسبق إليها قال: “يظهر مما تقدم من النصوص أن فتوى محمد كان مسبوقا إليها من طرف كل من القوري والبعل وابن خجو، بينما فتوى أحمد ابن عرضون لم يسبق إليها”(145)، وهذا الكلام فيه نظر، فقد ذكر ابن عبد الرفيع التونسي “أن الذي جرى به الفتوى عند المصامدة وجزولة أنهما شريكان بالنصف”(146)، وابن عبد الرفيع أسبق وفاة من ابن عرضون، فقد توفي سنة (733هـ)(147)، بينما توفي أحمد بن عرضون سنة (992هـ)(148).
يتضح من خلال ما سبق أن الفتوى الأولىهي لأبي عبد الله محمد ابن عرضون، أما الثانية فهي لأبي العباس أحمد ابن عرضون، وهو الذي رجحه الدكتور عمر الجيدي رحمه الله(149).
حيثيات فتوى ابن عرضون ومستنداتها
الباحث الأخوذي، والمتفحص الألمعي، يلفي بأن فتوى ابن عرضون لم تكن قط تقولا على الله، ولا تشريعا بالهوى والتشهي، وإنما كانت استجابة لظروف اجتماعية معينة، كانت ترزح تحت وطئتها المرأة الجبلية، دون أن تحصل منها فائدة تذكر، “فهي تعمل كل شيء مواصلة الليل بالنهار، حتى يعتبر عمل الرجل متضائلا بجانب عملها، فمن سقي الماء إلى جلب الحطب، ومن حرث الأرض واقتلاع الأشجار إلى بناء الدور، ومن حصد الزرع ودرسه وجمعه وتذريته ونقله وطحنه إلى رعي الماشية، بالإضافة إلى البيع والشراء وحمل الأثقال على ظهرها، نظير ما تحمله البغال والحمير تماما، زيادة على وظيفة الأمومة وربة البيت”(150)، ثم لا تحصل بعد طلاقها أو وفاة زوجها إلا علىحقوقها المعروفة من إرث أو متعة أو نفقة أو سكنى، وهذا من الظلم الفاحش، والإجحاف الفضيع الذي لن يقبل به لبيب، سواء كان ابن عرضون أو غيره، وفي هذا الصدد يروي لنا الدكتور الجيدي حكاية منقولة بالتواتر ومتداولة بين الناس إلى الآن، وهي: “أنه لما أفتى ابن عرضون للمرأة بالنصف وسواها بالرجل في العمل، ثارت ثائرة بعض العلماء في أنحاء المغرب، وفي فاس بوجه خاص، واتفق أن وفدا من علماء فاس كانوا في زيارة لضريح عبد السلام ابن مشيش دفين جبل العلم، ومروا في رحلتهم بشفشاون التي كان ابن عرضون قاضيا بها لملاقاته ومناقشته في فتواه المستحدثة وسألوه عن القضية، فما أجابهم بشيء، بل طلب منهم الانتظار، وبينما هم كذلك إذ مر فوج من النساء وهن حاملات أثقالا على ظهورهن – كعادتهن- من حطب وأنواع أخرى من الأثقال، فقال لهم: ما رأيكم في هؤلاء النساء؟ فتعجب العلماء من ذلك، وأذعنوا لرأيه، وأيدواحكمه، وأدركوا وجاهة فتواه، وأصابتها روح العدل”(151).
فهذه هي الحيثيات التي كانت دافعا لابني عرضون في الإفتاء بتلك الفتوى والقضاء بها غير أن تلك الفتوى لم تكن قطعا مبنية على الاندفاع العاطفي والاشقاق الزائد على المرأة الجبلية، وإنما هي مبنية على عدة أسس وقواعد شرعية نجملها فيما يلي:
1- العرف: فقد وجد ابن عرضون بالبادية الجبلية عرفا يقضي بإعطاء المرأة حظا من الممتلكات المتراكمة خلال الحياة الزوجية. والعرف أصل من الأصول التشريعية، لذلك ما كان لابن عرضون أن يتجاهله.
2- جريان العمل بذلك من قبل الفقهاء الجبليين المتقدمين على ما حكاه عن شيخه احمد البعل المصورى(152). والعمل أصل من أصول المذهب لا يمكن غض الطرف عنه.
3- مبادئ الإسلام السمحة المتمثلة في العدل والقسط، فالمرأة البدوية تشارك زوجها في الخدمة من حصاد ودرس ورعي وغيرها، زيادة على الأعباء الأخرى كزوجة وأم. فالنتاج هو حصيلة جهد مشترك بين الزوجين وليس ملكا خاصا للزوج، فكان من الظلم حرمان الزوجة منه لأنه أكل لأموال الناس بالباطل.
———
(126)- نوازل العلمي 1/101- 102. انظر حاشية الرمهوني 4/36-37. المعيار الجديد 7/560. تحفة أكياس الناس. ص: 277. المنح السامية 2/285.
(127)- جريدة المحجة. ع: 141.( 16-12-2000.)
(128)- نوازل العلمي 2/103-104.
(129)- نفسه.
(130)- ابن عرضون الكبير. ص: 205.
(131)- المجموع الكامل للمتون. ص: 567.
(132)_ هو أبو العباس أحمد بن الحسن بن عرضون الزجلي الغماري، من أسرة عربية قرشية الأصول، ولد بمدشر أدلدال شرقي مدينة شفشاون سنة: 948هـ/1541م. نشأ في وسط علمي بقرية تلنبوط حيث كان أبوه خطيبا ومدرسا بمساجدها ومن أعيان القبيلة، وإليه يرجع الفضل في تحبيب العلم إليه وتوجيهه وجهته، حفظ القرآن الكريم وكثيرا من الأشعار ثم سارع إلى تلقي مبادئ العلوم عن شيوخ البلد كعبد الله الهبطي، وسليمان بن أبي هلال الملولي، ثم رحل إلى فاس لاتمام دراسته بجامع القرويين، فأخذ عن وجوه الفقهاء، أمثال: محمد القصار، وعبد الله الحميدي، ويحيى السراج، ومحمد بن مجبر المستاري، ورضوان الجنوي، وغيرهم. ولي بعد رجوعه من فاس القضاء بشفشاون، وزاول إلى جانبها مهام متعددة : كالخطابة والتدريس والإفتاء. يذكر له المترجمون كتبا عدة أهمها: اللائق لمعلم الوثائق، مسائل ملقوطة من نوازل مازونة، مقنع المحتاج في آداب الزواج، رسالة التوادد والتحاب في آداب الصحبة… توفي رحمه الله بفاس في 10 رجب 992هـ/1584م. ( جذوة الاقتباس.لابن القاضي.ص:160- سلوة الأنفاس. للكتاني.2/302- أعلام المغرب العربي.لعبد الوهاب بن منصور. 5/195- معلمة المغرب.18/6040- الفكر السامي.للحجوي.2/271)
(133)- حاشية الرهوني 4/37. المنح السامية 2/284.
(134)_ هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عرضون الزجلي، ولد بمدشر أدلدال قرب تلنبوط من بني زجل، أخذ عن والد nكأخيه أحمد- مبادئ العلوم ثم أخذ عن عمه عمر بن يوسف بن عرضون والشيخ عبد الله الهبطي، ثم انتقل إلى فاس وأخذ عن شيوخها كأبي العباس أحمد المنجور، وأبو راشد يعقوب بن يحيى اليدري، وأبو عبد الله بن أحمد بن مجبر بن أحمد النستاري، وأبو النعيم رضوان الجنوي، وغيرهم. تولى قضاء شفشاون مدة عشرين سنة بدءا من وفاة أخيه أحمد سنة:992هـ . من أشهر مؤلفاته: شرح رسالة بن أبي زيد القيرواني، وشرح العقيدة السنوسية،وشرح مثلث قطرب، وغيرها. توفي رحمه الله بفاس عصر يوم الثلاثاء 11شعبان1012هـ وفق: 11يناير1604. (درة احجال في غرة أسماء الرجال.لابن القاضي المكناسي.ص:250- معلمة المغرب. 18/6041- الحياة السياسية والاجتماعية بشفشاون وأحوازها خلال القرن 10هـ/ 16م .لعبد القادر العافية.ص:426)
(135)- المعيار الجديد 7/560. المنح السامية 2/285.
(136)- نوازل العلمي 2/101.
(137)- نفسه. 2/103.
(138)- ابن عرضون الكبير. ص: 195.
(139)- هذان الإسمان هما اللذان ذكرهما العلمي في نوازله وهو خلاف ما ذكره الدكتور محمد التاويل عنه ” نسبها العلمي مرة لمحمد بن الحسن بن عرضون ومرة للحسن بن أحمد بن الحسن بن عرضون” (المحجة. ع: 141. 16-12-2000) وكذلك خلاف ما ذكره الدكتور عمر الجيدي قال: “نسبها العلمي لمحمد ابن عرضون ونسبها لأخيه احمد بن عرضون” (ابن عرضون الكبير. ص: 195.)
(140)- المعيار الجديد 7/560.
(141)- ابن عرضون الكبير. ص: 205.
(142)- نفسه. ص: 194.
(143)- المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير. ص: 199.
(144)- ابن عرضون الكبير. ص: 205.
(145)- نفسه.
(146)- فقه النوازل في سوس. ص: 417.
(147)- الوفيات ابن قتفذ.تح: عادل أبو نهيض.ط:4. 1983.دار الآفاق الجديدة. بيروت. ص: 345.
(148)- أعلام المغرب العربي لعبد الوهاب بن منصور.طبعة:1993.المطبعة الملكية.الرباط. 5/197.
(149)_ابن عرضون الكبير. ص: 204- 205
(150)- ابن عرضون الكبير. ص: 193.
(151)- نفسه. ص: 199.
(152)- نوازل العلمي 2/102.
ذ.الميلود كعواس