مدرستي بعيدة وحلمي أبعد.. كنت أتأمل قمة جبل بعيد، وأحلم أن أتسلقه يوماً ما، لأبلغ القمة وأرى أبعد نقطة يصل إليها بصري!
كان علي أن أقطع مسافة بعيدة إلى مدرستي… الطريق رائعة أراجع خلالها دروسي.. رغم معاناتي مع الحر والدراسة في حصتين صباحا ومساء، ما يضطرني إلى البقاء في العراء أمام الفصول الدراسية وتسوء معاناتي أثناء المطر والبرد والوحل، والطامة الكبرى، حين يفيض الوادي ليعزل قريتي عن المدرسة والعالم بأسره!
هذه الظروف القاسية علمتني الصبر وقوة الاصرار وبعد الرؤية والتفوق..
أبي فلاح بسيط، لكنه دوماً كان يكافئني على تفوقي ويعدني أن يكون دائما بجانبي!.
اجتزت المرحلة الابتدائية بنجاح، لأبدأ معاناة أخرى.. علي أن أقطع مسافة بعيدة إلى الطريق لأنتظر المواصلات التي قد تأتي وقد لا تأتي.. أركب سيارات (ميرسدس 207)، لأتكدس مع التلاميذ كالسردين في علبةمصبرة.. وأحيانا، تصاب السيارة بعطب، فتتوقف عند منتصف الطريق وتضيع الحصة الدراسية أو اليوم كله.. وعلي أن أدرس أيضا حصتين موزعتين بين الصباح والمساء، تفصل بينهما ساعتان أو أكثر.. حيث أمكث في العراء تحت رحمة تقلبات الطقس والتحرش الجنسي من طرف المتسكعين وعديمي الأخلاق..
أتناول غذائي المتواضع مع صويحباتي، ونستغل الوقت في المراجعة والقراءة الحرة..
يستبد بي القلق مساء، خاصة حين يقصر النهار، وتبدأ معاناتي مع المواصلات غير المرخص لها (أو الخطافة كما نسميها) لأصل إلى الطريق المؤدي إلى قريتي أحيانا بعد أذان العشاء، فأجد أبي الحبيب في انتظاري بمصباحه اليدوي وكلبه.. تستقبلني أمي بعويلها ومعارضتها الشديدة لدراستي من فرط خوفها علي…
أتحدى الارهاق لأنجز تماريني على ضوء المصباح الغازي وأرتل وردي من القرآن الكريم ثم أنام مبكراً، لأستيقظ قبيل الفجر!
كان أبي يتحمل أعبائي كلها إضافة إلى أعبائه الكثيرة.. وأثناء الجفاف، كانت تشتد أزمته، ورغم ذلك لم يتذمر قط، وكان دائما يشجعني على تحقيق حلمي، بل حلمه أيضا.. رغم أن الناس كانوا يعيرونه بي، إلى حد رميه بالحمق، لأني في نظرهم سأجلب العار له… حتى وإن درست ونجحت وعملت، فإني سأتزوج، ويجني زوج المستقبل تعب أبي!
اجتزت البكالوريا بتفوق.. اخترت كلية الطب.. ضحك كل من سمع ذلك، إلا أبي.. الطب حلمي، إنه التحدي الأكبر أمامي.. لقد عشت معاناة أمي ونساء قريتي أثناء الحمل والمخاض، ومنهن من تموت في الطريق للبعد عن المستشفى!
في كلية الطب، وجدت نفسي قد تمرنت على الصبر والتحدي.. وخلال الصيف، كنت أساعد أبي طيلة عطلتي، ليتسغني عمن يعمل معه ويدخر الأجر لي… فمصروفي قد ارتفع خاصة كتبي… وأمي -بدورها- تربي الدجاج والخراف لتساعدني بعائداتها..
تخرجت من كلية الطب.. عُينت بعيداً عن قريتي… الجميل في تجربتي أنيصرت قدوة في قريتي.. فكل تلميذة أسألها عن أمنيتها تجيبني : سأكون مثلك.. طبيبة!
سماعتي وسام أهديه لأمي وأبي.. وما زلت أتأمل قمم الجبال الوعرة!
ذة.نبيلة عزوزي