2- القوامة ليسَتْ اسْتِبداداً وتكميماً للأفواه
الظلم البيتيُّ أكْبَر خَرْق لحدود الله
إن الله تعالى ذكر “حدود الله” سِتَّ مرات في آيتَيْن اثنتيْن وردتا في سياق دَعْمِ البيت المسلم حتى لا يتصَدَّع، وفي تَدَارُك صُدُوعه حتى لا ينْهَار، وهما قوله تعالى : {الطّلاَقُ مرَّتَانِ فإِمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بإحْسَانٍ. ولا يَحِلُّ لكُم أنْ تَأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إلاّ أن يَخَافَا ألاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. فإن خِفْتُمْ ألاّ يُقِيمَا حُدَودَ اللَّهِ فلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِه. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فلاَ تَعْتَدوها ومَنْ يَتَعدَّ حُدُودَ اللَّهِ فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ. فإِن طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوجاً غَيْرَهُ. فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ جُنَاحَ عَليْهِمَا أنْ يَتَراجَعا إِن ظَنَّا أنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُون}(البقرة : 227- 228).
ما هذه الحدود التي تكررتْ سِتَّ مرات خلال بضعة سطور؟!
إنها الضوابط الشرعية التي تمنعُ الفوضَى والاستخفاف والاستضعاف!!
إنها ضوابط الفطرة، والعقل، والوحيْ التي تقيم الموازين القِسْطَ بين الناس!!
إن البيتَ ليسَ وِجَاراً ـ سَكَناً وَكَهْفاًـ تسكُنُه الضِّبَاعُ والثعالِبُ، أو غاباً يضُمُّ بين جذوعه الوُحوش
إن الظلم البيتيَّ والأسريَّ أكبَرُ خرْقٍ لحدود الله تعالى، وأكْبَرُ ظُلْم يصيب المجتمع في المقاتل فيهلكه. قال الشيخ رشيد رضا صاحب المنار ]”والظلم آفَةُ العُمران ومهْلَك الأُمَمِ، وإنَّ ظلم الأزواج للأزواج أَعْرَقُ الإفساد وأعْجَلُ في الإهلاك من ظُلْم الأمير للرَّعية، فإن رابطةَ الزوجية أمْتَنُ الروابط وأحكَمُها فَتْلاً في الفِطرة الإنسانية!! فإذا فسدت الفطرةُ فساداً انتَكَثَ به هذا الفَتْلُ، وانقطع ذلك الحبْل. فأيُّ رَجَاءٍ في الأمَّة مِنْ بعده يمنع عنها غَضَبَ الله وسخطه؟!
إن هذا التجاوزَ لحدود الله يُشْقِي أصحابه في الدنيا كما يُشقيهم في الآخرة… وقَدْ بلغَ التراخي والانفصامُ في رابطة الزوجية مبلغاً لم يُعْهَدْ في عصر من العصور الإسلامية، لفساد الفطرة في الزوجَيْن، واعتداء حدود الله من الجانبيْن”(1).
إن فِقْه الزوجَيْن لحُسن اختيار بعضهما بعضا للارتباط الموثق من عند الله أولا، وإن فقه حُدُودِ الله فقها جيّداً أثناء التعاشر والتساكن ثانيا، وإن حُسْنَ الصَّبر لبعضهما بعضا -على بعض الهفوات- طاعة لله تعالى وطلبا لرضاه ثالثا، كل ذلك سيُوطِّد أركان السلام داخل البيْت وخارجهُ، وسيجعل المرأة تبسط سلطانها في دائرتها كما يتيح للرجل أن يَمْلِك الزمام حيث لا يَصْلُح غيره للعمل في المعارك المناسبة لطبيعته وفطرته ورجولته بدون تنازع أو تنافس، وإنما بتوافُق وتشاور، خصوصا وأن الله تعالى قال : {وأمرهم شورى بينهم} قبل أن تكون هناك شؤون عسكرية أو سياسية أو دستورية، وإنما نزلت بمكة، فكان تناوُلُها وانطباقُها على الأسرة أولى واسبقَ وأحَقَّ.
الإسلام ينمي في نفس المسلمة قوة الشخصية
إن أبرز ما يميز المرأة المسلمة المستنيرة بهدي دينها : قوة شخصيتها ونضج تفكيرها، وجدية سلوكها، فهذه خلائق تتحلى بها المرأة المسلمة قبل زواجها وبعده، لأنها نِتَاجُ فهْمها لدينها، ووعيها لرسالتها في الحياة الزوجية.
وهذه أمثلة حية في التاريخ المشرق للنساء المسلمات :
1- روت أم عطية رضي الله عنها أنه حينما قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلَّم عليهن، فردَدْن السلام، فقال : أنا رسولُ رسُولِ الله إليكن، فقلن : مرحبا برسول لله، وبرسول رسول الله. فقال عمر: تبايعْن على ألا تشركْن بالله شيئا، ولا تسْرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفتَرينَهُ بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف… قُلْن : نعم. فَمَدَّ عمر يده خارج الباب، ومَدَدْن أيديهن من داخل -بدون مصافحة-، ثم قال : اللهم اشهد.
إن المبايعة على الوفاء للمبادئ التي أقْررْنها لَهِي أقوى تعبير عن قوة الشخصية!.
2- حاوَلَ اللعين أبو جهل فرعونُ الأمة أن ينَالَ من قَدْر المرأة المومنة المستضْعَفَة سُمَيَّة خياط رحِمَها الله، فلقنتْه دَرْساً في الثبات على الدين الرافع لكرامة الإنسان، لَمْ يطقْ عليه ـ الثبات ـ صبرا، فأهْدَر رُجولتَه بقَتْل امرأةٍ ذهبتْ في الخالدين وذهب هو في الخاسرين، وهل هناك شخصية أقوى من الشخصية التي تبتسِمُ لِلْمَوْت في سبيل الحياة، حياة الشهداء؟!
3- فاطمة بنتُ الخطاب] أسلمتْ قبل أخيها عمر، فعندما وصلَهُ خبر إسلامها حملتْه حميَّةُ الجاهلية على أن يبطش بزوجها، فقامتْ إليه تردُّه عن زوجها، وعندما لَطَمَهَا لطمة شَجَّتها، قالت له : إني مومنة، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن ديني خيرٌ من دينك، وما سمعتَنَا نقرأه هو القرآن العظيم، وافْعَلْ ما بدالك!! فَهَزَم حقُّها باطلَهُ، وآب إلى وعْيه ورُشده، فكانت تلك اللطمةُ من أبْرَك اللطمات في سبيل الإسلام، إنها لطمة أتتْ بأعظم رجل في الإسلام بعد الرسول وصاحبه في الغار أبي بكر!!
4- روى البخاري عن الخنساء بنت خِدام، قالت : إن أبي زَوَّجَني من ابنِ أخيه وأنا لذلك كارهة، فشكوت ذلك إلى رسول الله ، فقال لي : “أَجيزِي ما صَنَعَ أَبُوكِ” فقلت : ماَلِي رغبةٌ فيما صَنَعَ أبي، فقال : “اذْهَبي، فَلاَ نِكَاحَ لَه، انكِحي مَنْ شِئْتِ” فقلت : قَدْ أَجَزْتُ ماَ صَنَعَ أبي، ولكنَّنِي أردتُ أن تَعْلَم النساء أَنْ ليْسَ للآبَاءِ من أمُور بناتهم شَيْءٌ”(3).
5- قال : >أُمَّةُ اللَّهِ واحِدَةٌ يٌجيرُ عَلَيْهمْ أَدْنَاهُمْ، والْمُومنُونَ بَعْضُهُمْ مَوالِي بَعْضٍ<(4).
وأثناء فتح رسول الله لمكة أَهْدَرَ دَمَ رجالٍ مشركين، فجاء أحَدُ هؤلاء المشركين واستجار بأم هانئ أُخْتِ علي بن أبي طالب ]، فجاء عليُّ وأراد أن يقتُل المستجِير بأم هانئ، فذهبت لرسول الله واشتكت من عَزْمِ أخيها عليٍّ على خَفْرِ ذمتها بقتل المشرك المستجير بها، فقال لأم هانئ : >قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ<(5).
والأمثلة كثيرة جدا تَدُل على أن المرأة ـ بنتا، وأختا، وزوجة، وأُمّا، وجارة ـ كانت تعيش بدون ممارسة أي نوعٍ من المصادرة لحريتها أو رأيها أو مبادراتِها الطيبة، بل كانت تجد التشجيع من رسول الله ، سواء اعترض على رأيها الصائب أخٌ، أو زوج، أو أبٌ، لتتحقَّقَ للمرأة ذاتية وشخصية لا فرق بينها وبين ذاتية وشخصية الرجل إلا فيما يضاد الفطرة والطبيعة أو يعارض الوحي والشرع..
ثورة لا معنى لها فطرةً
وشرعًا وعقلاً
الكثير من النساء اللواتي شربن من معين الحضارة المادية يعترضْنَ على جعل المرأة في النظرة الإسلامية محلاًّ للاستمتاع والتلذذ، أي أنها أكْبَرُ من ذلك، وأوسَعُ معنى ودلالة ومضمونا.
الواقع أن الفقهاء عندما يُعَرِّفون عِقد النكاح يقولون فيه : إنه عَقْدٌ يُفيدُ اختصاص الرَّجُل بِبُضْع المرأة وامتلاكه حَقَّ الاستمتاع بسائر بَدَنِها على وجه التلذُّذ المعروف.
فالفقهاء عندما عَرَّفوا عقْدَ النكاح بالخاصيَّة التي نصُّوا عليها لمْ يقصِدُوا أن المرأةَ مَحَلُّ الشَّهوة فقط، ولا أن الرجل ليس مَحَلاًّ للشهوة بالنسبة للمرأة أيضا. ولم يقصدوا أن المرأة لاَ دَوْرَ لها غيرُ هذا، ولكنهم قَصدُوا إلى الأَهَمِّ الذي يُجيزُه عَقْدُ النكاح ويُبيحه، وهو الإفضاء لبعضهما بعضا.
وترتَّبَ عن هذا التنصيص على هذا المعنى فقهيا أَنَّ المرأة يجوز لها أن تمتنع عن خِدْمة البيت، وعن الإرضاع، وعن رعاية بعض مصالح الزوج بالشروط الضرورية في هذا، ولكنها لا يجوز لها أن تمتنع عن الفراش إلا لضرورة شرعية.
وهذا ما تطلبُ المرأةُ الفاسدةُ الفطرة والثقافة فيه المساواةَ على اعتبار أَنَّها ليسَتْ دُمْيَةً يَتَلَهَّى بها الزوج متى شاء!! فهي موجُودة لشيء أكبر من هذا؟ هذا شيء صحيح. المرأة نصف المجتمع حقا، وعليها يقع نصف تنمية المجتمع، ولكن أهَمَّ شيء في تنمية المجتمع إيجاد الخَلَف الصالح، ولا سَبَبَ لوجود الخَلَف إلا عن طريق إعطاء الفطرة حقها من الطاعة التي لا تقبل اعتراضا ولا مناقشة.
———–
1- نقلا عن قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
2- شخصية المرأة المسلمة ص : 202، محمد علي الهاشمي.
3- فتح الباري 9/194 كتاب النكاح، باب إكراه البنت على الزواج، نقلا عن شخصية المرأة المسلمة ص 151، وكتاب المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني لـ : د. البوطي ص: 53.
4- فقرة من نص الوثيقة التي اكتتبها رسول الله بعد الهجرة تنظيما للعلاقة ما بين المسلمين بعضهم مع بعض، وما بين المسلمين وغيرهم رواها الإمام أحمد، وابن اسحاق وغيرهما.
5- متفق عليه.
ذ.المفضل فلواتي