التغييراتُ الكبرى التي تُحْدِثُ تحَوُّلاً في التاريخ والحضارة، والفكْر، والثقافة، والعواطف، والطموحات… تَرْتَكِزُ على دعَامَتَيْن اثْنَتَيْن :
أولاهما : وجودُ المبَادِئ الأسَاسِيَّةِ : التي ترْتضيها الفطرةُ الخاليةُ من الإعوجاج، وتتعَشّقُها القُلوب السليمةُ من حُبِّ التّسفُّل الشّهْوانيِّ.
وثانيهما : تصْنيعُ الإنْسَانِ المومِن على هذِهِ المبادئ : أيْ تربيةُ الإنْسان على مَهَلٍ لتتشرَّبَ روحُه ومشاعِرُه وعواطفه تِلْك المبادِئَ فتصبحَ هَمَّهُ بالليل والنهار، يَحْرُثُ لَها، ويزْرَع لها، ويتعلَّمُ لها، ويُعَلِّمُ لها، ويتاجِرُ لها، ويتزوجُ لها، ويُربّي أولادَه لها، ويَبْني السَّكَنَ لها، ويَنَامُ لها، ويصحو لها، ويسافِرُ لها، ويقيمُ لها، ويُحِبُّ لَهَا، ويُبْغِضُ لها، ويجْتَمِعُ لها، ويُخاصِمُ فِيهاَ، ويَبْذُلُ نَفْسَهُ ومَالَهُ في سبيلها. وباختصار حتى يُصْبح الإنْسانُ المُرَبّى على تلك المبادئ يعْتَبِرُ نفسَهُ شيئا ثقيلا في ميزان الله بتلك المبادئ، وبدُونها لا يُساوي شيئاً، بَلْ يعْتبر نفْسَهُ أحطَّ من الحيوان والجماد.
وهذه المكانةُ السامية الناتجةُ عن التفاعُل مع المبادئ داخِلَ النفس المُربَّاةِ تربيةً قويمة على يَدِ مُرَبٍّ عليم فقيه حكيم هي المُسَمّاةُ في المشروع الربّاني >تزْكيَة<.
هذا المشروع الربّانيُّ أسْنَد اللهُ عزوجل تنفيذَه لأحَبِّ خَلقِ الله إليه محمد ، اسْتجابةً لطلَب خَليل الله ابراهيمَ عليه السلام، حيث قال : {ربَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُم يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاتِك، ويُعَلِّمُهُم الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِم}(البقرة : 128). وهذه التزكية التي هي نهايةُ السَّقْف التّربَوي المطلوب لبناء العَبْد الصالح المستحقٍ لوراثةِ الأرض في الدنيا والأخرى، هي التي عَلَّمَنا الرّسُول الإلحاحَ على الله تعالى في مَنْحِها لنَا >اللّهُم آتِ نفُوسَنا تَقْواهَا وزَكِّها أنْتَ خيْرُ مَن زكَّاهَا< فهي تزكيةٌ من الله تَبْدأُ، وإِليه تَرْجع.
فما هي هذه المبادئ؟!
إنها مبادئ عديدة، ولكنّ أمَّهَاتِها باختصار، هي:
1) الإيمانُ بالله تعالى ربّا وإلهاً معبوداً، والإخلاصُ له في السِّر والعلانية : ولا يتحقق هذا الإيمان المطلق إلا :
أ- بأن تكون طاعة الله تعالى ورسوله فوق كل طاعة {وما كَانَ لِمُومِنٍ ولا مُومِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُه أمْراً أن تَكُونَ لهُم الخِيَرةُ مِنْ أمْرِهِم}(الأحزاب : 36)، فلا مناقشة في أركان الإسلام وفرائضه وأخلاقياته، ولا مناقشة في محرمات الإسلام ونواهيه ومكروهاته ومنكراته، وإلا كان الإنسانُ يعيش بوَجْهَيْن وشخصيّتَيْن واتجاهَيْن لا هَدَف له في الحياة، ولا قيمة له ولا اعتبار في كلالمقاييس والموازين لأنه يعيش كريشة في مَهَبّ الرياح.
ب- بأن تكون محبةُ الله تعالى ورسولِه فوْقَ كل محبة : قال : >ثلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيه وجَدَ حَلاَوةً الإيمَانِ : أن ْ يَكُون اللّه ورسُولُه أحبَّ إِلَيْه ممَّا سِوَاهُمَا..<.
جـ- بأن يكون اعتزازُه بالله تعالى وبدينه وهدايته فوق كُلّ اعتزاز : {وللَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ وللْمُومِنين}(المنافقون : 8)، {يَا أيُّها النّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتّبَعَكَ مِنَ المُومِنِين}(الأنفال : 65)، {الذِينَ قَالَ لهُم النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمُعُوا لكُمْ فَاخْشَوْهُم فَزَادَهُم إيمَانً وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ فانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ منَ اللَّهِ وفَضْلٍ لمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(آل عمران : 173).
إن الطاعة الكاملة لله ورسوله، والمحبة الكاملةلله ورسوله، والاعتزاز الكامل بالله تعالى وبرسوله ودينه تَجْعل الإنسانَ يَشْعُر بحلاوة التديُّن بدين الله تعالى، وحلاوة الدّعوة لدين الله تعالى، وحلاوة التحدّي بدين الله تعالى، وحلاوة الجهاد الإعلامي والثقافي والتعليمي والاجتماعي والأسري في سبيل الله تعالى، وحلاوةالموت على مِلَّة الإسلام في حالة إقبالٍ وتشوُّق للقاء الله تعالى ونَيْلِ رضاه في منازل الإنعام والإكرام.
إن هذا المَبْدَأ إذا تَغَلْغَلَتْ مشاعرُه في الكيان الإنساني قلبَتْه رأساً على عَقِبٍ، حيث يصبحُ الإنْسان يَعيشُ وهو يشعُر :
> أنَّه يؤدي رسالة تعميريّة في الكون والحياة وبين الأحياء، وليْسَ كالعَبَثِيّين الذين لا هَدَف لهم إلا العبث والسخرية والاستهزاء بكل القيم والفضائل، فهُمْ في الغَيّ يعمهُون، وفي التخريب للكيان والعُمران يشتغلون.
> أنه يستندُ إلى الرَّكْنِ الرَّكِين، والحِصْن القوي المتين، والملاذِ الأمين، رُكْنِ الانتساب لرَبِّ الكوْن، وربِّ الحياة، وربّ الأحْياء، رُكْنِ الاستمْداد للهداية والتشريع والنصْر من المولى الهادي والناصر.
> أنه مستقلُّ تماماً عن كُلّ التحكّمات الهوائية، والتسَلُّطاتِ البشرية، والإذْلالاتِ الطاغوتية، والاسْتِرقَاقَاتِ والاستعْباداتِ الفكريّة والسياسية، والاقتصادية، بحيث لا تستطيع أيةُ جهة ممارسةَ أي نوعٍ من أنواع الهيمنة عليه ما دام مُتفيِّئاً ظِلال الرحْمان المنّان.
هذاالمبدأ وحْدَه لَوْ صدَقَ قادةُ الشعوب المنتسبة للإسلام في الإخلاص له،وصدَق زعماء الأحزاب والهيآت والجمعيات،و أربابُ الأسر، والهيآت التعليمية في تربية الأجيال عليه، وتنشئتهِم على الممارسة لمتطلّباتِه بروح حارّة متدفقة، ولو صَدَق العلماءُ والدّعاة في الدّعوة له بجد واهتمام، وحُرْقَة ولوْعة.. لَوْ توفَّرَ الصِّدْق الصادق من هؤلاء جميعاً لغيَّر الله عز وجلما بنا في زَمَنٍ أسْرعَ مما نتصوَّرُ ونُؤَمِّل ونُخَمِّنُ، ولغَيَّر بنا أحْوالَ الإنسانيّة المنكودة بالنهَم البشري، والجَشَعِ التسلُّطيِّ، ولأَصْبح ميزانُنا الاجتماعيُّ والسياسيُّ والدّوليُّ صَاعداً في العَلْياء، يَحْسَب لتجمُّعاتِنا وقراراتِنا ومؤتمراتِنا ألْفَ حِساب وحِساب، ولسارتْ بهَيْبتنا الرُّكْبان لمختلِف القارات والبُلدان.
فما بالُك إذا أضيف إلى هذا المبدإ الأساسيٍّ مبدأٌ ثانٍ مِن صُلْبه توَلَّدَ، وفي رحِمِه نشأ هذا المبدأ هو :
2) الاعتراف والشكر على التكريم الربّانيُّ للإنسان : إنه تكْريمٌ لا حَدّ له ولاحَصْر، فيجب أن يقابَل بشكر لا حد له، تكريمٌ في الخَلْقِ القويم جَسَداً، وفِطرةً، وروحاً، ولساناً وبيانا، وتكريمٌ في العَقْل المنُوطِ به تسخير الكون والانتفاع به، وتكريمٌ في المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان من دُون باقي مخلوقاتِ الله، وتكريمٌ في الاستخلاف عن الله تعالى في مُلكه وكونه، وتكريمٌ في التمتع بطيّبات الحياة ولذائذها من كل صنف ونوْع في حُدود المباح المستطاب، وتكريمٌ في صيانة حقوقه كلها من مأْكل ومشرب ومَلْبس ومَسْكَنٍ وزواج وتناسُل وحُريّة في المعتقَد والفِكرو الدّعوة والمجادلة والدّفاع والانتقاد والنصح والاقتراح إلى غير ذلك من التكريمات العديدة في كل مجال من مجالات النشاط الإنساني المتنوِّع.
إلا أن أعظم تكريم منحه الله تعالى للإنسان هو إنْزَالُه سبحانه وتعالى الكُتُبَ الهادية إلى كيفية السَّيْر في الحياة سَيْراً يضْمن الرُّشْدَ، ويكْفُل العنايةَ الربّانيّة، ويُحَقِّق الانسجام مع الكَوْن انسجاماً يجْعَله في خِدمة الإنسان وطَوْعَ اجْتهادِه ونشاطه بأمْرٍ من الله تعالى وسُنَنِه الأزلية.
ولمْ يقتصِر التكريم الرباني للإنسان على انزال الكتب وترْكها نظريةً قابلةً للتطبيق المصيب والمخطئ، وقابلة للاجتهاد المصيب والمخطئ، وقابلة للتحريف والتغيير.. كلا، ولكنه سبحانه أرسل الرُّسل من البَشَر مع الكُتب ليُعَلِّمُوه السَّيْر الصحيح، والتطبيق الصحيح في أحْوال الأسْرة، وأحْوال الحرب والسلم، وأحْوال التعايُش الكريم مع كل الأصناف البشرية، وأحْوال الصبر على مختلفِ الانحرافاتِ والإذاياتِ.. إلى غير ذلك من مختلف الأحوال التي لابد أن يمُرّ بها الإنسان.
كُلّ هذه الإكرامات والتكريمات الربانية حتّى لا ينزل الإنسان إلى مستوى أقل :
> من مستوى الجماد فيعبد الحجر والشجر والقمر والبقر،فتلك أعظم إهانة ىُهينُ الإنسان بها نفسه، حيث يعبد ما هو دونه، بل ومسخّر له {لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولا للْقَمَر واسْجُدُوا للهِ الذِي خَلَقَهُنّ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُون}(فصلت : 37).
> أو ينزل إلى مستوى عبادة بشرٍ مثلِه، جاهِلٍ مثله، عاجزٍ مثله، فَانٍ مثله، فتلك أعظمُ إهانة تُفقد الإنسان شخصيته وتجعله مجرّد تابع ذليل لغيره {وقَالُوا إنّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وكُبَرَاءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}(الأحزاب : 67)، {إنّا وجَدْنَا آبَاءَنَا علَى أمةٍ وإنّا على آثارهم مهتدُون}(الزخرف : 21).
أما أعظم تكريم للأمة الإسلامية بالأخص فهو :
أ- أن الله تَوَّجَها بشرف الشهادة على الناس {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطَا لتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ}(البقرة : 142)، والشهادة معناها قيادة الناس للحق.
ب- وجعلها خير أمة أخرجت للناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ للنّاس}(آل عمران : 110)، والإخراج الحسن معناه دعوة الناس للاقتداء بالمثل الحسن.
جـ- وجعلها خير أمة مصطفاة لوراثة الكتاب الرباني الذي به تهتدي وتَهْدي وتقيم الحجة على الناس {ثُمّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنا من عِبَادِنا}(فاطر : 32) والوراثةُ معناها استِثْمارُ الموروث وتنميتُه وتزكيتُه بالحفظ والتحفيظ، والعلم والتعليم، والتجدُّد والتجديد في كُلّ آنٍ بعمق الإيمان بمبادئه، وحُسْن الاهتداء بآياته ومعجزاته وكنوزه… وإلا تبلَّدَتْ أحَاسِيسُنا، وتجمَّدت مشاعرنا كما تتجمّدُ الأرضُ المُهْمَلة وتقحَطُ فتُنتَزَعُ مِلكيتُها من أصحابها السفهاء بأيّ سبب من أسباب الانتزاع لتنتقل الأرض إلى من يحسن التصرفَ فيها، سنةٌ أزليَّةٌ ماضية {وإِن تتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يَكُونُوا أمْثَالَكُم}(محمد : 39).
إذا نظرنا إلى العالم الإسلامي -على امتدادِ أراضيه في كل القارات، وعلى وفرة ما فيه من الخيرات- وتساءَلْنا بجدّية ومسؤوليّة :
> مَنْ يمتلك من رؤسائه الجرأة والشجاعة ليُعْلِن بصدْق أنّه يخطِّطُ لبلادِه السّيْر على متقضى الشرعية الإسلامية سواء طابقت الشرعية الدولية أو خالفتْها، فيُعلن تحريم ما حرَّمَهُ الشرع من قمارٍ ورباً وخَمْرٍ ودعارة ورشوة ومجاهَرة بالاستهزاء بالدين، والعصيان لله والرسول؟!!
> وهل يمتلك قادتُه القدرة على التنادي للتجمُّع والتجميع على أساس الإسلام سواء كان التجمُّع اقتصادياً، أو سياسياً أو دفاعيا عن الكيان والمقدسات، أو وُقوفاً في وجْه الطغيان، أو تجمُّعا على أساسِ المراجعة لللحساب مع الله تعالى ومَعَ الشعوب قصْد إعْلان التوبة والتصالح مع الله تعالى والشعوب الذين هم عيال الله بإعطاء الشعوب الحريّة المطلقة في الاختيار لمن يقُود ويسوس، ومن ينصَحُ وينتقد، ومَن يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر؟!!
إن طاقة القادة مكبّلة إمّا بالهوى والاستبداد، وإمّا بالتبعيّة والخيانة لله وللرسول وللشعوب، وإمّا بحب الاستئْثار بخيرات الأمة واقتسامها مع أعدائها، وكلُّ ذلك يَدُل على انعدام الاستقلال في التوجُّه المفروض على الأمة بحكم انتمائها للإسلام قادة ومقودين، لأن الذين يُمْلُون إرادتهم عليهالهم توجُّهاتٌ مصادِمة لتوجُّه الأمة ودينها وهُويتها.
ومادام الأغيار يُصنِّعون للأمة قادتَها ليكبلوا إرادتها في الانعتاق والانطلاق فالأمَل معَلَّقٌ على الخيِّرين من الأمة ليجدِّدُوا العَهْدَ مع الله على تربية الأجيال الصالحة لحَمْل الأمانة من جديد، اقتداءً برسول الله الذي ربَّى الجيل الفريدَ المصنوع على عَيْن الله تعالى، فاستحق النصر والتأييد والرعاية والإيواء لأنه تقبَّل الوجهةَ الفريدة الوحيدة التي وجَّهَهُ الله تعالى إليها، رافضاً جميع التوجُّهات المرذولة عن علم وبينَةٍ واقتناع.
أما الظهور بالوجْهين، واللعب على الحبْليْن فذلك هو عَيْن النفاق والخداع لله تعالى، ومن حاوَل خِداع الله تعالى أضله الله تعالى وأذله {إنّ المُنَافِقِين يُخَادِعُون اللّه وهوَ خَادِعُهُم}(النساء : 141).