لبيك يا حبيب الله!!
تنزلت الرحمات وانشقت الحياة الطيبة، وتعطرت الأرجاء بنسائم الحرية والكرامة والعزة، وأعلنت الدنيا أن الإنسان القيَـِّم عليها بلغ الرشد الإنساني مع أول كلمة التقت فيها السماء والأرض “اقرأ”، ألقاها رب العزة بواسطة رسوله جبريل إلى حبيبه وصفيه محمد . وتلقفت خديجة الزوجة الصالحة البذرة المباركة, واحتضنتها واحتضنت صاحبها، وأخذت بيده الكريمة ليبلغ الأمانة بصدق وحب. وبعد مرور هذه القرون التي تراوحت فيها البشرية بين الرشد الإنساني فتسامت إلى تمثيل خلافة الله في الأرض مقتدية بقدوتها وحبيبها المصطفى تسعى جهدها لتأدية الأمانة وبين القصور البشري، فزاغت عن الطريق واثَّاقَلَت إلى الأرض تلهث وراء شهواتها، وبين الطغيان البشري، فكفرت بالرسالة الإلهية واقتدت بالشيطان يقودها نحو استغلال البشرية وإهلاكها، بعد هذه القرون وبعد أن خطا العلم خطوات هائلة في تحقيقالجانب المادي لدلالة “اقرأ” الربانية آن الأوان في واقعنا المعاصر لتحقيق الجانب الروحي لدلالة “اقرأ”، وإنقاذ البشرية من كل ما تعيشه من الأزمات الخانقة, وذلك بتبليغ الدعوة الربانية عبر طرق أربع: طريق العلم لإقناع العقل الإنساني المعاصر الذي تشكل بنظريات وتصورات بعيدة عن المنهج الإلهي برحمة الإسلام وعدله وشموليته,وطريق القدوة المعاصرة المتخلقة بأخلاق الإسلام وقيمه ووسطيته لتقديم نماذج حية ناجحة في الحياة استطاعت أن تتسامى بسلوكياتها وعلاقاتها، وطريق بسط السيرة النبوية الشريفة والتعريف بأخلاقه وسنته ومواقفه المختلفة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء : 107)، وطريق تقديم أشكال الفن الإسلامي الجميل واستغلال الإعلام النظيف في ذلك {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها}(ابراهيم : 24ـ25) . وهذاالتبليغ يجب أن يكون مشروطا بشرطين أساسيين: اختيار مواقف التبليغ المناسبة على مستوى الحدث والواقع, والوعي التام بقدرة الرسالة على إصلاح الفكر البشري وإعادة توازن الإنسان – الفرد والمجتمع - لما تتمتع به من عناصر قوة وجذب ونفاذ إلى العمق.
ولعل هذه الهجمة الشرسة على حبيبنا رسول الله تنبه المسلم ليصدق في إيمانه ويرتفع بأخلاقه وسلوكياته, ويخلص في كل عمل يقوم به لله عز وجل مقتديا بالحبيب المصطفى الذي علمه الحق سبحانه أن يكون بكليته له عز شأنه {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام : 162)، فيكون لأي عمل كيفما كان حجمه أو نوعه قيمة عالية لوجوده الإنساني, وهدفا لبلوغ مرضاة الله عز وجل,وتجعله ينبذ الازدواجية الفكرية والاجتماعية التي تتحكم في حياته, ويتعلم أدب الاختلاف دون الدخول في إلغاء الجهود أو إقصائها أو التنازع {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}(الأنفال : 46). وتنبه المجتمعات الإسلامية إلى ضرورة الوحدة والتكامل, واستجماع القوى وتركيزها على الرفع من مستوى أداء الأفراد العملي والأخلاقي، وتحسين مستوى معيشتهم بما يستحقونه من حياة كريمة لا تضطرهم إلى الممارسات المحرمة. ولعل هذه الهجمة في صالح المسلمين “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم” لرفع الغشاوة عن أعينهم, وتبصيرهم بحقيقة ما يجري حولهم, واتخاذ مواقف صارمة وحاسمة منها.
وإني أكاد أجزم أننا فعلا كنا بحاجة إلى شيء قاس جدا يهز أعماق فطرتنا، ويحرق بلادتنا وأنانيتنا التي لم يعد شيء يؤثر فيها، لم تعد الدماء البريئة المسفوحة على عتبات الديمقراطية والتحرير والدفاع المشروع عن النفس ومختلف الشعارات الكاذبة والمخادعة تهز مشاعرنا, لم تعد صور المعذبين والمعذبات وصراخ المغتصبين والمغتصبات وأنات جراحاتهم تقلق منامنا أو توقف الغصة في حناجرنا، أو تدفعنا إلى المقاطعة واتخاذ المواقف الصارمة والوقفات الحضارية المعبرة.. وعسى وعسى أن يكون التعدي على مقدساتنا التي آخرها -وليس أخيرها ما دمنا نلعق تهاوننا ووهننا- الهجمة على حبيبنا ورسول ربنا الهادي إلى خير البشرية وسعادتها وأمنها النقطة التي أسالت كؤوس عذاباتنا, فنتعاهد على الخير والحب والعدل والحق والصدق والعمل, ونتعاهد على وضع المعنى والهدف لحياتنا, وعلى عدم تضييع أي فرصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجعل سيدنا رسول الله قدوتنا وربنا الكريم الرحيم ملاذنا ومغفرته منتهى آمالنا.. فلبيك يا رسول الله لبيك..
دة.أم سلمى