في حب الرسول
يقول الله تعالى : {قل إن كُنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}(ال عمران : 31).
طاعة الرسول هي الطريق الموصلة إلى محبة الله :
حب الله تعالى يتمثل في حب رسول الله ، لأنه ألقى الشرع على لسانه وأمرنا باتباعه، قال تعالى : {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر : 7). ثم إن فَضْل سنة الرسول الأكرم عظيم، فقد فصلت مجمل أحكامه وقيدت مُطلقه وخَصَّصَتْ عامّه ودونها لا يمكن معرفة القرآن، ولهذا قال العلماء : السنة قاضية على القرآن، وكذلك الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب. وقال جعفر الصادق ]، “أكبر نعمة على المسلم رسول الله ، واتباعه في سنته هو في حقيقته محبة لله تعالى. قال تعالى : {من يطع الرسول فقد أطـاع الله}(النساء : 79)، وقوله سبحانه وتعالى : {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئىن والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}(النساء : 68). فالله سبحانه وتعالى يغدق العطاء على مطيع الرسول بإدراجه ضمن الصفوة الممتازة من خلقه، وسنته تشمل عليه الصلاة والسلام اتباع أقواله وتقريراته وأفعاله وكل صفاته الخلقية، وهي أساس المعراج إلى محبة الله تعالى. وأما الصلاة عليه فتبقى حُبسا على الإنسان في حياته ولا تذهبها السيئات، فهي خير ما يطمئن القلب ويسكنه ويقوي العزيمة ويشحذ الذهن ويفرج الهموم، ويصلح البال ويذهب الذنوب، قال الله تعالى : {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمدٍ وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلحَ بالَهُم}(محمد : 2).
وعن أبي كعب ] قال : كان رسول الله إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : >يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه<(رواه الإمام أحمد)، قالأبي : فقلت : يا رسول الله، إني أكثر من الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال : >ما شئت<، قلت الربع؟ قال : >ما شئت، فإن زدت فهو خير لك<، قلت : فالنصف؟ قال : >ما شئت، فإن زدت فهو خير<، قلت : فالثلثان؟، قال : >ما شئت، فإن زدت فهو خير< قلت أجعل لك صلاتي كلها؟ قال : >إذن تكف همك ويغفر لك ذنبك<(رواه الترمذي في سننه)، لأن الله تعالى أمر بذلك فقال: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} وهذا هو مقامه في الشريعة الإسلامية، ولا تكون الإصابة في الدين إلا باتباعها والاهتداء بهديها. فقد قال : >تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي<(رواه الحاكم في المستدرك)، وقد جعل الشافعي ] -ناصر السنة- السنة في مرتبة القرآن من حيث الاستدلال لخطرها وجلالها.
من هذا يتبين أن محبة الرسول هي أصل هذه المحبة، وهي التي تجعل الإنسان يترقى في معارج الكمال فمحبةالله لا تتم إلا عن طريق سلم السنة، ولهذا أفنى العلماء حيواتهم في حفظها ودراساتها ونقلها من جيل إلى جيل، يدفعون عنها تحريف الضالين، وتأويل المبطلين، حتى تبقى صافية نقية خالية من الشوائب، لا يتسرب إليها التشويه والتزوير، لذا وجدنا الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون كل الحرص على محبة رسول الله . بتسجيل كل ما يصدر عنه، كي تستقيم حياتهم على منهج النبوة السليم الصحيح، وحتى لا تختلط بالشطحات المنحرفة، بل إنهم احتاطوا بقوة حتى في رواية الحديث لتبقى طاهرة مشرقة تنيرلهم الطريق، بل منهم من كان مقلا في الرواية مخافة الوقوع في الكذب على الحبيب المصطفى ، لأنهم سمعوا منه >من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار<(رواه العشرة المبشرون بالجنة ورواه أربعون صحابيا ويعد من الأحاديث المتواترة القولية) بل إن بعضهم كان يتبعه في سفره، وبعضهم كان يتبعه في خروجه إلى السوق، وروي في الأثر أن سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب كان يتبعه حتى في خروجه إلى الخلاء حتى يتأسى به، وكانوا يتسابقون على التقاط كل ما يسقط منه. ولما سأل امبراطور الروم رسوله عن كيفية تعامل أصحابه معه؟ أجاب ما رأيت قط ناسا يحبون نبيهم مثل ما رأيت هؤلاء الناس، وهذا أكبر دليل على تأسي الصحابة برسول الله والتفاني في محبتهم له، لأنهم على علم يقين بأن ذلك هو السمت الموصل إلى محبة الله تعالى ودونه لا تحقق هذه الدرجة، وقد ورد في سيرة ابن هشام عن أبي إسحاق أن زيدا بن الدثنة ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له، يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال : والله ما أحب أن محمدا الآنفي مكاني الذي أنا فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي. قال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، ثم قتل نسطاس رحمه الله(السيرة النبوية ص : 172/43).
ومن النماذج التي تظهر تفاني الصحابة في محبة رسول الله ما جرى لأبي بكر الصديق لما فتح رسول الله مكة المكرمة، أسلم أبو قحافة (أبو سيدنا أبي بكر الصديق ]) وكان إسلامه متأخرا جدا وكان قد عَمِيَ، فأخذه سيدنا أبو بكر وذهب به إلى النبي ، ليعلن إسلامه ويبايع النبي ، فقال له >يا أبا بكر هلا تركت الشيخ في بيته، فذهبنا إليه< فقال أبو بكر : لأنت أحق أن يؤتى إليك يا رسول الله… وأسلم أبو قحافة… فبكى سيدنا أبو بكر الصديق، فقال له هذا يوم فرحة، فأبوك أسلم ونجا من النار فما الذي يبكيك؟.
فقال أبو بكر لرسول الله لأني كنت أحب أن الذي قد بايع النبي الآن ليس أبي، ولكن أبو طالب، لأن ذلك كان سيسعد النبي أكثر، سبحان الله ففرحته لفرح النبي أكبر من فرحته لأبيه.
د.عبد الحميد أسقال