أحيانا يجد المبدع نفسه عاجزاً عن ولوج حمأة الإبداع، وتحرير الفكرة المختنقة داخل وجدانه كيما تتدفق جمالا وحكمة على الورق، وتصبح بالتالي رقا وازنا داخل معادلة الفكر والإبداع، في هذه الحالة تحاول الذات المبدعة أن تتخلص من سلطة الأسر النفسي الذي يصاحب حالة السكون، فتتحرك في أكثر من اتجاه لخلخلة هذا السديم الآسن الذي يمكن أن يضع حدا -لا قدر الله- لحياة حافلة بالفكر والمدافعة، وقد يفلح المبدع بطريقة أو أخرى في تكسير جدران الصمت داخل نفسه ليستعيد عافيته ويشحذ همته، وعند استقرائي لعدد من حالات الركود الإبداعي، وقفت عند حالتين لأنهما الأكثر انتشارا داخل الأوساط الإبداعية، الحالة الأولى تحكيها لنا الشاعرة الكبيرة “نازك الملائكة” في مقدمة ديوانها >للصلاة والثورة<، حيث تقول -بتصرف- إنها وجدت نفسها عاجزة عن كتابة الشعر لأكثر من ثلاث سنوات، لأسباب نفسيةيصعب تشخيصها، وظنت أنها انتهت شعريا،، وسط هذه العتمة تلقت نازك رسالة من صديق بمناسبة عيد الأضحى المبارك، ولما فتحتها وجدت بداخلها بطاقة تهنئة تحمل صورة المسجد الأقصى، فحركت هذه الصورة البركة الآسنة في أعماقها، فتحركت معها كل أبعاد القضية الفلسطينية لتؤجج نفسية الشاعرة الإنسانة التي تحمل هموم أمتها، فما كان منها إلا أن خطت على ظهر البطاقة ثلاثة أو أربعة أبيات، وظنت أن المسألة سوف تنتهي هنا، وأن الأمر لا يعدو أن يكون شعورا بالأسى على ضياع أولى القبلتين، ثم ذهبت لتنام، وفي الصباح لما استفاقت أخذت البطاقة مجددا، وقرأت الأبيات التي خطتها على ظهرها، وفي لحظة أشبه بالحلم انطلق اليراع مسترسلا على نفس الإيقاع ليوقع على إحدى أجمل قصائدها والتي اختارت لها عنوان >للصلاة والثورة< وبعد هذه الصلاة المقدسة تدفق الشعر مدرارا إلى حين عجزها التام عن الكتابة..
الحالة الثانية جاءت من فرنسا، وكان بطلها الشاعر الفرنسي >بول فاليري<، فقد توقف طائر الشعر عن التغريد لدى هذا المبدع لأكثر من عشرين عاما، ليصدع بعدها بأروع قصائده والتي ظلت لسنين عدة محط أنظار النقاد، وهي قصيدة >المقبرة البَحْرية<، فبينما كانت قضية الأمة الأولى المتمثلة في اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين، باعثا أكدت نازك من خلاله مدى تفاعل المبدع مع واقع أمته، واستماتته في الدفاع عن مقدساتها، نجد الحالة الثانية تفاعلا نفسيا عميقا من المبدع تجاه كارثة من الكوارث التي تعصف بحياة الإنسان، كالعواصف البحرية التي تغرق السفن وتخلف وراءها مآسي كبرى..
باختصار فإن ثلاثية : الذات، الآخر والمقدس، والتي يمكن أن نرمز إليها أيضا بـ : المبدع، الانسان والإرث الحضاري للأمم، تشكل محور العملية الإبداعية الملتزمة، التي من خلالها يمكن للفكر والإبداع عن يعْبُرا نحو الشواطئ النائية، وتحصل من خلالهما المثاقفة والتواصل في أبهى صورهما.
ذ.أحمد الأشهب