مقدمة
اقتضت حكمة الله تعالى أن تتدرج دعوة النبي الكريم، ورسالة الرسول العظيم، عليه الصلاة والسلام، تدرجا ذكيا، راعت سنن التغيير الاجتماعي، التي تقوم على معرفة الأحوال والأوضاع غاية المعرفة، وترتكز على تحديد الغايات الواضحة، ورسم الأهداف البينة، بدقة متناهية، وترتيب الأوليات، وتقدير الإمكانيات، إلى جانب حسن اختيار الخطاب، ومضمون الخطاب، ذي البعد العملي الإجرائي الواضح، الذي يضمن التأثير ويعين على الاستجابة.
ومناط هذا كله حسن اختيار الداعي، وإعدادِه إعدادا يرقى إلى معارج القدوة والتأثير، وقد تبين كيف تعهد الله تعالى محمدا منذ الخلق الأول، والاصطفاء المعجل، والإعداد لليوم الفيصل، والإكرام بالوحي المنزل، فكان حقيقا بأن يوصف منذ إعلان النبوة المبكر من قبل الله تعالى بقوله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ}.
الدعوة في مرحلة الاستخفاء
كان من مقتضيات الدعوة في مستهلها أن تتصدرَ المراحلَ كلَّها مرحلةٌ تقوم على ركنين أساسيين:
الركن الأول: الفردية: وتقتضي الاتصال بالناس أفرادا، وعرض النبوة والرسالة عليهم بصفة مباشرة أفدادا، عن طريق التبليغ والمحاورة، من قبل محمد بن عبد الله أول الدعاة عليه الصلاة والسلام، ومن قبل الذين استجابوا له حتى يتوسع نطاق التبليغ والانتشار والإنذار .
الركن الثاني: السرية: وتقتضي عدم الإعلان الصريح وتوخي الاستتار ما أمكن، جاء في كتاب أنساب الأشراف للبلاذري وفي غيره من مصادر السيرة والتاريخ قولهم:” كان ما بين أن نزلت النبوة على النبي إلى أن أُمِرَ بإظهار الدعاء ثلاثَ سنينَ، فكان دُعاؤه ثلاثَ سنينَ مُسْتَخْفِيًا”(1).
> دلالة السرية :
كانت السرية تعني في هذه المرحلة عدم الإفصاح عن الهوية الإسلامية الجديدة، إلا إذا حصلت الطمأنينة وغلب حسن الظن، وانتفى توقع المكروه تجاه الجهة المُطْلَعَة على السر، رجاء المشاطرة في الهوية عقب الدعوة التي كانت سارية المفعول في كافة الأوساط التي تطالها علاقات المنتمين للعقيدة الجديدة، جريا على سنن الاجتماع.
ملاحظتان مهمتان:
- الملاحظة الأولى: رجحان عدم البدء بالسرية حتى تأكدت الضرورة:
- الملاحظة الثانية: استمرار اعتماد السرية حتى في مرحلة الإعلان العام للدعوة:
أكدت القرائن الكثيرة أنه ربما كما كان الاستثناء حاصلا في مرحلة الاستخفاء العام، بحيث وُجد من الصحابة من أعلن عن انتمائه مبكرا بمحض إرادته، ومارس العمل الدعوي دون تردد أوخوف، حينما آنس من أنفسه القدرة على ذلك، مما دل على أن أمر السرية كان على سبيل الندب والاختيار، وكان أيضا الاستثناء حاصلا في مرحلة الإعلان العام بحيث وجد من الصحابة من كان يخفي إسلامه حفاظا على سلامته، إذ أن حفظَ النفس وعدمَ الزَّجِّ بها في مهاوي التهلكة، وبخاصة حينما تدعوالضرورةُ، هومقصد إسلامي واضح، تجلى معناه منذ البدايات الأولى لحركة الإسلام.
فوائد اعتماد نهج السرية
إن مسألة اعتماد السرية والفردية ليس بدعا، وإنما هوسنة ربانية مطردة هدى الله إليها أنبياءه، لما في ذلك من الحكم والمزايا أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أ- عدم التشويش والتشغيب على مدارك المدعوبحيث يكون خالي البال، وعلى أتم الاستعداد لاستقبال الخطاب، لأنه في هذه الحال تكون إرادته حرة، يستطيع أن يمارس اختياره دون معوقات أوتردد.
ب- ضمان تمكن معاني الدعاء من القلب والعقل شيئا فشيئا، وهذا يكون في دفعات، ولا يتأتى إلا إذا كانت الأجواء مهيأة، وظلال الطمأنينة وارفة.
ت- اتقاء ردود أفعال الرافضين وغير المستجيبين، التي تكون مثبطة، دون شك، كما قد تكون عائقا يحول دون اتساع رقعة الدعوة، والحيلولة دون الراغبين في الاستجابة، من خلال الدعاية المناهضة التي تمليها المعارضة، والتي تؤثر، لا محالة، على ذوي القلوب الضعيفة، والعقول السخيفة، التي ربما احتاجت إلى أجواء صافية، وظروف مواتية، لرسوخ اليقين لديها، إذ الإنسان ابن بيئته، وصياغةٌ لمجتمعه، ونتيجة للمؤثرات التي ألمت به عبر السنين.
ث- تَحَسُّب لردود الأفعال العنيفة التي تتجاوز الكلام والحوار إلى استعمال الخشونة والعنف والإرهاب، ولا شك أن هذا العنف يحول دون الاستجابة الطيعة العفوية، إذ ليست كل النفوس جريئة قوية، تستطيع الصبر على البلاء، والصمود على المبدأ، وبخاصة إذا رأت مظاهر الاضطهاد والقمع عن طريق العنف. وقد لاحظنا كيف أن الدعوة لما انتقلت من أسلوبها السري إلى الأسلوب العلني، كيف صعب الأمر على الكثير، وكيف حوصرت الدعوة، فلم تقع الاستجابة بشكل مكثف في مكة، في الوقت الذي كانت تتنامى بشكل سريع ولافت للانتباه في المدينة المنورة، التي كانت تتمتع بشيء من الحرية والمرونة والانفتاح وتوازن القوى السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية.
ج- هذا من حيث المبدأ العام في الفائدة والحكمة من اعتماد نهج الإسرار والتكتم الذي ربما صلح لأي زمان ومكان، وتحت شعار أي دعوة دينية كانت أوسياسية.
أما من حيث النظر إلى هذا النهج في ظل أوضاع المجتمع القرشي المكي، فإن الدراية بطبيعة النظام القبلي، الذي استحكمت فيه عدة نزعات وعوائد: كالعصبية، والأنفة، والثأر، وتقديس الآباء والأجداد، والإخلاص للأوثان، تجعل الاعتماد على هذا الطريق ضرورة لا مندوحة عنها.
وفي تقديري إن في أسلوب السرية والتكتم في هذه المرحلة من الدعوة وفي كل مرحلة تشبه ملابساتها وظروفها ملابسات وظروف هذه المرحلة، أعظمُ العظات والدروس في السياسة الشرعية والتدبير الاجتماعي والتدرج الإصلاحي.
إجراءات سرية أمنية أخرى
اقتضى اعتماد أسلوب السرية اتخاذ إجراءات وتدابير ضروريةتنسجم معه من أجل تحقيق الأهداف المنشودة والغايات المقصودة، من بين هذه التدابير ما أذكره:
بدأ الإسلام يفشووينتشر شيئا فشيئا في هذه المرحلة رغم اعتماد أسلوب الاستخفاء والفردية.
وانبرى كل مستجيب لدعوة الرسول يدعو كل من يعرفه للإيمان والإسلام، حتى تجمعت جماعة من خيرة الرجال هم اللبنة الأساس التي سيقوم عليها صرح الإسلام المتنامي.
قال ابن إسحاق:” ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام في مكة، وتُحُدِّث به”(2).
>أ- اتخاذ مقر للقاء والاجتماع:
كانت نتيجة هذا أن تجمع عدد لا بأس به من المستجيبين كما مرت الإشارة، وتكاد تجمع مصادر السيرة والتاريخ أن محمدا وأصحابه المستجيبين اختاروا مكانا مناسبا يجتمعون فيه سرا بعيدا عن الأنظار الراصدة.
>ب- بواعث الإجراء:
لعل الذي دعا إلى التفكير في هذا الإجراء الأمور التالية:
1) تجمع عدد لا بأس به من المؤمنين بالرسالة.
2) ضرورة تعارف كل المستجيبين بعضهم مع بعض لما في ذلك من رفع المعنويات وتشجيعا على الدعوة والصمود، هذا فضلا على ما يتطلبه الأمر من تعاون وتكافل.
3) التعلم والمدارسة، فقد كان الوحي يتنزل بالعلم والإيمان، ولابد من اجتماع الكل في موضع واحد لتحصل الفائدة ويكون التلقي مباشرا من مشكاة النبوة، ومعين الرسالة، يتعلمون القرآن، ويتفقهون في الدين، ثم ينطلقون منذرين، وقد شحنوا بالأنوار وملئوا بالمعارف القدسية.
4) الحاجة إلى العبادة والصلاة في مكان قريب آمن، وقد سجل التاريخ أن المستجيبين الأوائل لما كانوا قلة كانوا حينما تحضر الصلاة يتفرقون في الشعاب والأودية لأدائها بعيدا عن الأنظار المتهمة والمثبطة.
ت- مكان اللقاء وطبيعته:
أما المكان الذي اختاره رسول الله فهي دار الأرقم بن أبي الأرقم، وتشير بعض المصادر إلى أنها كانت تقع جهة الصفا في مأمن من الحركة وتخف عن الأنظار.
كما دلت نصوص أخرى على أنه ربما اتخذت دور أخرى للالتقاء ومدارسة القرآن على أن عدد المجتمعين كان قليلا، ربما دعت إليه ضرورة بلوغ الدعوة وعلم الوحي إلى النساء المستجيبات أيضا.
جاء في النص الذي رويت من خلاله قصة إسلام عمر بن الخطاب قول عمر بن الخطاب:”… وكان رسول الله إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما إلى من في يده سعة، فينالان من فضل طعامه، وكان قد ضم إلى زوج أختي رجلين”(3).
طبقات المستجيبين وتصحيح المفاهيم
لقد رصدَتْ كتب السيرة وكتب الطبقات على اختلافها أسماء الذين استجابوا للدعوة في هذه المرحلة المبكرة، فسَجَّلت أصولَهُم وقبائلَهُم وأوضاعَهُم ومراكزَهُم الاجتماعية والاقتصادية مما أعان على الوقوف على تكوين صورة حقيقية ربما خالفت الصورة المغلوطة التي راجت عند كثير من الناس قديما وحديثا.
أما الصورة المغلوطة فهي تلك التي تستشف من النصوص الآتية:
1) بالنسبة للقدماء:
عن الزهري قال:”دعا رسول الله إلى الإسلام سرا وجهرا، فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس”(4).
2) بالنسبة للمعاصرين:
يقول البوطي تحت عنوان: الأوائل الذين دخلوا في الإسلام، والحكمةُ من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:”تُحدثنا السيرة أن الذين دخلوا في الإسلام في هذه المرحلة كان معظمهم من الفقراء والضعفاء والأرقاء”(5).
إن النصين إذن يشيران إلى طبيعة الذين استجابوا فهم أحداث الرجال، وضعفاء الناس، والأرقاء، فهل هذا صحيح؟
لقد كانت الصورة التي نسجتها مثلُ هذه النصوص، هي الصورة التي سيطرت على الأذهان، وانتشرت في الآفاق، نَصًّ عليها القدماء، وروج لها من أعقبهم، وهي صورةٌ لاشك خاطئة، وتحتاج إلى تصحيح، بالكشف عن أولئك الذين استجابوا في هذه المرحلة فمن هم؟
لقد تَعَقَّبْتُ أسماءهم فوجدتُ معظَمَهُم قد توزعوا على مجموعة من البيوتاتالعربية الشريفة، ذات المركز الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، المرموق، ليس في مكة فحسب، بل في جزيرة العرب قاطبة.
> استنتاج:
كان عدد الرجال الذين اعتنقوا الإسلام في هذه المرحلة بعد الإحصاء ستة وسبعين رجلا، قد توزعوا على أربع عشرة بيتا، لا يخفى شرفهم.
أما عدة حلفائهم من القبائل العربية الأخرى فهم بعد الإحصاء لا يتجاوزون الستة عشر رجلا.
وأما الموالي والأرقاء فلم يتجاوزوا الثلاثة عشر.
فانظر إلى نسبة المستضعفين بالإضافة إلى الأشراف من ذوي البيوتات الشهيرة لتقف على التهافت في الحكم وعدم الدقة في التقدير.
وشتان بين الصورتين صورةِ اعتبار المستجيبين الأُول كان معظمُهم عبيدا وموالي ضعافا، وصورةِ اعتبار المستجيبين الأول كان أغلبُهُم أشرافًا.
> تعليل ذلك:
وأعتقد أن الذي لبّس على القوم الذين ذهبوا ذلك المذهب مظاهرُ الاضطهاد والتعذيب التي مورست على أولئك الأصحاب الذين كانوا مستضعفين لا شوكة لهم، أمثالِ بلال بن رباح، وآلِ ياسرٍ، وخبابٍ وأضرابِهِم ]م، فقد غطت صورتُهُم على الآخرين.
والحقيقة إن التعذيب والاضطهاد كان عاما، شمل الذين لا شوكة لهم ولا عصبية، والذين هم من ذوي الشوكة والعصبية، فقد نال كلُّ بيت ممن اعتنق الدين الجديد نصيبه من ذلك، حتى إنهم فروا جميعَهم بدينهم إلى الحبشة في الهجرتين الشهيرتين بدعوة من النبي عليه الصلاة والسلام.
بيد أننا لا نرغب من وراء هذا التحقيق إلى أن ننفي سبق الضعفاء والأرقاء والموالي إلى اعتناق الدين الجديد، ولكن الذي ينبغي ألا يُعتقد هوغَلَبَتُهُم على الأقوياء الشرفاء، لأنه لا مصداقية له في التاريخ، ولأن الاعتقاد في غلبة هذا الصنف، واتساع دائرته بصورة مبالغ فيها، هوفضلا عن عدم مطابقته للواقع استنادا إلى التاريخ، ربما أوهم أن دعوة محمد هي دعوةٌ طبقية، استهدفت تحرير العبيد والأرقاء، بيد أنها، على خلاف ذلك، هي رسالةٌ إنسانيةٌ عالميةٌ، استهدفت الإنسان من حيث هوإنسان، بغض النظر عن طبقته، ومركزه، وثقافته، وعرقه، وجنسه، ولونه، حكمةً من الله بالغةً.
بل إن غلبة صنف الأشراف والأحرار ربما كان مقصودا لأن الإسلام كان بحاجة إلى الأقوياء حتى يتحقق له التمكين، قال رسول الله :” المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير”، ولا شك أن الشرف والعصبية والغنى، وقوة البنية، والقدرة على التحمل، والدراية بفنون الدفاع عن الدعوة وغيرها من أبرز عوامل القوة علاوة على قوة العقيدة، وشدة الالتزام بمبادئها وأخلاقها ومقاصدها.
هكذا أصبح نصاب الإسلام مكتملا، وقاعدة الإيمان صلبة تستوجب الانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الاستخفاء والاستضعاف الذي طبع المرحلة المكية في مكة برمتها إلى مرحلة الإعلان والقوة والبروز التي ستعرفها المرحلة المدنية ابتداء من حادث الهجرة الذي لا ينكر فضله على حركة الإسلام برمتها.
—–
1- أنساب الأشراف، ج1، ص116.
2- عيون الأثر، ج، ص122.
3- الذهبي، السيرة، ص177.
4- الذهبي، السيرة ص 177.
5 -فقه السيرة، ص96.
د.رابح المغراوي