{ولَقد كَتَبنا فِي الزّبُور من بعْد الذِّكر أن الأرضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحون}(الأنبياء : 105)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، نبتدئ بالحمد لله، لأن الحمد كل الحمد في أجناس الحمد إنما هو لله تعالى، فهو المحمود مطلقا وأبداً في كل آن.
فالحمد لله كما ينبغي أن يُحمد، والشكر لله كما ينبغي أن يُشكر لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
ينبغي أن نذكر آلاء الله، لنعرف الله سبحانه وتعالى، لنحبه، إننا نحب آباءنا ونحب إخواننا، لماذا ؟ لأن كثيرا من الخير وكثيرا من النعم تأتينا في الظاهر على أيديهم، ولكن لو تأملنا قليلا لوجدنا أن المنعم الحق واحد هو الله جل جلاله، وإنما الخلق معابر ووسائل يمر عبرها وعن طريقها هذا الخير من الله فالمنعم الوحيد الذي له الحمد في الأولى والآخرة، والذي نحن مجبرون شرعا أن نقدم له هذا الحمد كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل؛ إنما هو الله جل جلاله؛ لماذا كان الله عز وجل وحْده مُستحقا الحمد؟! لأن النعم كلها من الله؛ قال تعالى : {ومَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(النحل : 53) أي نعمةٍ صغيرة أم كبيرة. نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة الكلام، نعمة المشي، نعمة العقل، نعمة الهواء، نعمة الضوء، نعمة الماء، نعمة القراءة… أي نعمة من النعم يتمتع بها العبد ذكرا كان أو أنثى إنما هي من الله عز وجل.
وإذا كانت النعمة العظمى التي لا يستمتع بها أحدٌ من جميع الخلائق هي أن الله تعالى تكرَّم علينا وجعلنا من بني آدم، فهناك نعمٌ كثيرة لا تعد ولا تحصى، على رأسها :
1) نعمة التكريم بالاستخلاف :
قال تعالى : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}(الاسراء : 70) فبنو آدم هم المستخلفون في الأرض بين جميع الكائنات وعلى جميع الكائنات، السيادة في هذا الكون لأبناء آدم، {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}(البقرة : 30) وذريته من بعده يخلف بعضهم بعضا إلى يوم القيامة، فالخلافة في الأرض لتعميرها وعبادة الله فيها إنما هي لأبناء آدم، وهذا تكريم أي تكريم {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56).
2) نعمة الهداية للإسلام :
ونعمة ثانية نحمد الله عليها؛ هي أنه جعلنا مسلمين. ونعمة الإسلام هي النعمة التي رضيها الله لعباده ومنّ عليهم بها فقال : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة : 3) {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}(آل عمران : 85) فجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجميع الرسل وجميع أتباع الأنبياء والرسل في الأمم الغابرة كانوا مسلمين، إبراهيم قال له الله تعالى : {إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لـــرب العالمين} (البقــرة : 131) {وأوصى بها إبراهيم بنيه}(البقرة : 132) ويعقوب (أيضا) : {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} جميع الأنبياء وأتباع الأنبياء هم مسلمون.
فالإسلام هو دين الله الوحيد على وجه الأرض، خلافا لما هو شائع ورائج، فليس فيما نزل من عند الله أديان، ولكن يوجد دين واحد نص عليه القرآن صراحة فقال : {إن الدين عند الله الإسلام}(آل عمران : 19). هذا الذي كان من قبل، وهذا الذي هو كائن، وهذا الذي سيكون {أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرها}(آل عمران : 83).
فنعمة الإسلام تحظى بها الصفوة المختارة من بني آدم المكرمين تكريما خاصا، هم الذين وهب الله تعالى لهم نعمة الإسلام، ومتعهم بنعمة الإسلام؛ فهي نعمة عظيمة بها يربح الإنسان حياته الحقيقية {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}(العنكبوت : 64).
هذه الصيغة للحيوان في اللغة العربية تفيد المبالغة، أيْ أنَّ الحياة الحقيقية التي تستحق معنى الحياة هي تلك التي له في الأخرى؟ لأنه لا موت بعدها ولانهاية لها، نعيمها مقيم، وعذابها مقيم نسأل الله العافية.
3) نعمة الخيرية للأمة الإسلامية:
ونعمة ثالثة أعظم وأكبر هي نعمة أنّنا خير أمة أخرجت للناس، أنّنا أمة الرسول الخاتم ، فالرسل قبله كانوا يبعثون لأقوامهم فقط، وهو الوحيد بين الرسل الذي بعث للناس كافة، وكان الرسل قبل يستحفِظون أتباعهم على الدين، وعلى ما نزل من كتاب الله، أي يوكل إليهم حفظه وصيانته، أما هذه الأمة فحفظ الدين تكفل به الله جل جلاله. فالله هو الذي نزل الذكر، وهو الحافظ له {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر : 9) أما قبل فقال : {بما اسْتُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء}(المائدة : 46).
ثم إن هذه الأمة لها نفس وظيفة الرسل، ولميحظ بهذا ولم تظفر به أمة من الأمم قبلُ. هذه الأمة لها نفس وظيفة رسول الله أي الشهادة على الناس : {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة : 142) إذ رسول الله بُعث وقُبض وما تجاوز الإسلام الجزيرة العربية. فمن الذي أوصل الإسلام وبلغه إلى غير الجزيرة العربية؟ ومن الذي يجب أن يبلغه إلى المناطق الأخرى التي لم يبلُغْها بعد؟.
إنما ذلك واجبُ أمتِه من بعده، وقد أشهدَ الصحابةَ الحاضرين على ذلك بقوله: ألا هل بلغت؟ قالوا : نعم قال : >اللهم فاشهد، وليبلغ الشاهد منكم الغائب<. وهكذا الأمرُ كلُّ جيل يبلغ الأمانة للجيل الصاعد حتى تقوم الساعة. وهذه الأمانة من جنس وظيفة رسول الله ، وما أشرفَها من أمانة؟!.
هذه النعم وهذا التكريم وهذا التشريف وهذه الرفعة والمنزلة لهذه الأمة تقتضي واجبا في الشكر. تقتضي حبا كبيرا لهذا المنعِم؛ تقتضي أداءً لفروض الطاعة، وفروض الشكر التي تلزم لمثل هذا المنعم. نِعَمٌ عظيمة تتطلب الشكر لاستمرارها وإلا رحَلَتْ، وهذا الذي نرى في واقعنا اليوم هو صورٌ كثيرة منه.
جزاء عدم الشكر
نحن اليوم كما قال رسول الله في الحديث >يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فسأل سائل رسول الله : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله، قال : بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل<(رواه أبو داود في سننه عن ثوبان) والغثاء هو ذلك العشب اليابس الذي فقد قوة الحياة فخفَّ وزنه فجاء السيل فرفعه من الأرض وجرفه. نحن كثير ولكن أيَُّّ قوة تستطيع جرْفنا وتستطيع رفْعنا ودفْعنا في الاتجاه الذي تريده لخفة وزننا وضآلة قوَّتنا.
لم كان ذلك كذلك؟ كان بسبب عدم الشكر لهاته النعم العظيمة التي أنعم الله بها علينا.
وبم يمكن أن نتجاوز هذا الوضع المزري الذي جعل الأمة تهبط إلى هذا المستوى الدنيء الوضيع؟!. وضع صارت السيادة والولاية الكبرى والهيمنة لِـمن كان من المفترض أن يكون مهيمَنا عليه من قِبل هذه الأمة كَائِناً من كان.
لا تجاوز لهذا الوضع إلا بالقضاء
على الــوهـــن
الأصل أن المسلمين هم في موقع السيادة والريادة والقيادة، هذا موقعهم الطبيعي، ومَنْ دونهم تَبَعٌ لهم وتحت ولايتهم. ولكن الواقع المشهود اليوم على غير هذا الوضع؟!.
ذلك الوضع شخَّصَه الرسول في الحديث نفسه المتقدم : >ولينزعن الله الرهبة منكم من قلوب عدوكم وليقذفَنََّ َّفي قلوبكم الوهن، قيل : وما الوهن يا رسول الله، قال : حب الدنيا وكراهية الموت<.
فهذا الوضعُ على النقيض تماما من تلك الثلة الصابرة المؤمنة الأولى التي عليها رُفع البنيان كله، جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ذكوراً وإناثا، كانوا في مستوى عَلِيٍّ، في مستوى رفيع، فسادوا وقادوا، كانوا يحبون الشهادة في سبيل الله، يحبون الموت في سبيل الله، ونحن نكره الموت، وكانوا يزهدون في الدنيا، ولا يتهافتون عليها، كانوا كما وصفهم رسول الله في شخص الأنصار حين قال لهم : إنكم لتكثرون عند الفزع وتقِلُّون عند الطمع؛ إذا نابتْ النائبة واشتدتْ الصعوبة والأزمة تكثرون، تأتون للدفاع، تأتون لنصرة الدين في وقت الشدائد، فإذا جاء وقت المغانم تقلّون، قليل منكم من يريد حظا من المال.
هذا الوضع صار منكوسا معكوسا ولذلك انتكس الواقع أيضا وانعكس، فمن زهد في الدنيا وضعها الله في يديه وصرّفه فيها، وجيل الصحابة زهد في الدّنيا فمكنه الله منها، واستخلفه فيها. ونحْنُ تهافتنا عليها فحُرمنا من الاستخلاف.
أمــانـــة الاسخـــلاف فـي عنــق
حَمَلةِ الــــوحــي
فمن في عنقه أمانة الخلافة في الأرض؟ إنهم الصالحون، إنهم أمة محمد ، هم الشهداء على الناس، هم حملة الوحي، غيرهم لا يعرف قرآنا ولا يعرف حديثا، غيرهم ليس لديه الحق المحض الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، غيرهم لا يملك هاته الهِبة هاته المِنَّة، هاته النعمة العظيمة نعمة الهدى الرباني، نعمة الوحي وهي قوت الأرواح، فالأرواح من أمر الله {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي}(الاسراء : 85) والوحي القرآن والسنة الصحيحة من أمر الله أيضا {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}(الشورى : 52) إنما الفرق أن الروح العادية المعروفة يصدر منها الأمر للجسد فيصير بها حَيًّا، والروح الأخرى -روح الوحي- يأتي منها الأمْرُ للأمة فتصير جسدا واحدا كما عبر الرسول : >مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<، فنفسُ الوضع ونفسُ الخصائص لكن يختلف المحَلُّ، الروح الأولى محلها الفرد، والروحالأخرى محلها الأمة. فبتفريطنا في أداء الأمانة ونحن المكلفون نعاقَب ولا يعاقب النصارى ولا يعاقب اليهود ولا يعاقب المجوس، ونعاقب بهم.
فالذين ضُربت عليهم الذلة و المسكنة {وباءوا بغضب من الله}(البقرة : 61) أولئك المغضوب عليهم وأولئك الضالون يصيرون في هذا الوضع المعكوس المنكوس، إنما يراد بهم عقوبتُنا لنستفيق، لنعود من جديد إلى الحياة، أي يصير وضع المغضوب عليهم هم الذين لهم القيادة والولاية والإمامة، وذلك عدل من الله سبحانه وتعالى، ولا يزول هذا الوضع حتى يراجع المسلمون حالهم، ويراجعوا أمْرَ دينهم، فما لم يراجعوه لن يزدادوا إلا ذلا ومهانة في العالم، فإن راجعوه راجع الله ما كان بهم ورجع بما كان لهم إليهم سبحانه وهو العدل من الرحمن الرحيم.
معنى الآية : {ولَقد كَتَبنا فِي الزّبُور من بعْد الذّكر
أن الأرضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحون}
قدمت هذه المقدمة بين يدي الآية التي هي العنوان لأنها من صميم الموضوع، فمعنى الآية : {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}(الأنبياء : 105) هذا قسم من الله سبحانه عز وجل كأنه قال : والله لقد كتبنا وفرضنا وجعلنا في الزبور، ما لا يقبل نقضا أبدا، كتبنا هذا في الزبور فيما زُبِرَ وكُتِبَ من الكتب قبل مما أنزله الله سبحانه وتعالى، على داود عليه السلام، ولكنه يطلق ويراد به كل كتاب كتب بوضوح، والكتاب المكتوب هو زبور، فكتب الله في الزبور من بعد الذكر الذي كان قبل الزبور، أن الذي يرث الأرض دائما هم الصالحون، الذين يعبدون الله والذين هم صالحون، فهؤلاء تنتقل إليهم السيادة على الأرض بأيسر كلفة، لأن ورث في اللغة العربية تفيد انتقال الملك إلى المالك دون كلفة منه، لذلك يطلق على ما ينتقل من ملك الأبوين وملك العائلة بعد الوفاة إلى الباقين أنه إرث وميراث، لأنه ينتقل بدون كلفةوذلك تيسير من الله عز وجل وتسهيل. لأن الانتقال قد يكون نتيجة مجاهدة شاقة جدا، وقد يكون بتيسير من الله لا يساوي في الظاهر الكلفة التي بذلت فيه، وذلك ما حدث للمسلمين قبل ويمكن أن يحدث في كل آن.
والسر جلي واضح هو أن الله سبحانه وتعالى أقل ما يجزي على العمل الصالح عشرة أضعاف، وهذه ليست نسبة مائوية 10% بل عشرة أضعاف {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}(الأنعام : 160) هذا أقل أجر عند الله تعالى، إلى سبعمائة ضعف {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء}(البقرة : 261).
ومن تلك المضاعفات مضاعفات الجهاد، فاليوم عند الله في الجهاد بألف يوم، المضاعفات بالآلاف ولذلك قال رسول الله : >ونصرت بالرعب مسيرة شهر<(رواه البخاري). ذلك من خصائصه . ومن خصائص أمته أيضا إن اتبعته : أن يبارك الله في عمل الصالحين، فتضاعف أعمالهم. فتلك القلة القليلة من المسلمين وسط الجزيرة العربية في مكة والمدينة، ما قيمتها بالنسبة للجيش الجرار الذي كان للفرس والروم؟ في الحساب البشري؟ لا شيء، ولكنها عناية الله وولاية الله و>من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب< إن الله متكفل بنصر المؤمنين {وكان حقا علينا نصر المؤمنين}(الروم : 47) بشرط أن يكونوا مؤمنين.
الإشكال في تحقيق الشروط لا في تحقق المشروط. فإن حققنا الشرط لا نلتفت إلى النتيجة، فالله متكفل بها، وهي وعد منه ولن يخلف الله وعده، إنما الإشكال يقع في الشروط التي ينبغي نحن أن نحققها وأن نتمكن منها لنستحق بها نصر الله.
مفهوم الأرض في القرآن
هذه الأرض في هذه الآية كيف يمكن أن نفهمها؟ هل هي الأرض التي نعرف اليوم أي الكرة الأرضية؟ هل هي غير ذلك؟.
الأرض في القرآن الكريم وردت بمعان ثلاثة :
1) وردت بمعنى فلسطين، وهي المشار إليها في قوله تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}(الأعراف : 137) تلك الأرض هي المشار إليها في آية الإسراء {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}(الاسراء : 1) هي الأرض المباركة في القرآن، المشار إليها في العديد من الآيات، وأورثها إذ ذاك المسلمين من بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى في تلك اللحظة فهذا من معاني الأرض.
2) ومن معاني الأرض في القرآن الأرض نفسها التي نعرف والتي تقابل السماوات {ولله ميراث السماوات والأرض}(آل عمران : 180) الله هو الذي سيرث السماوات بكاملها وهذه الأرض أيضا {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون}(مريم : 40) الوارث هو الله جل جلاله، الكل سيرثه الله { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}(الرحمان : 26) فالأرض في القرآن لها معنى الأرض الذي نعرفه اليوم.
3) وللأرض معنى ثالث هو الجنة، وذلك ما تشير إليه خواتم سورة الزمر، الداخلون للجنة المنعم عليهم من الطيبين _نسأل الله أن يجعلنا كذلك _ : {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}(الزمر : 74) فالأرض هاهنا الجنة.
إذن فالأرض في القرآن الكريم لها معان ثلاثة حسب السياق : هي أرض فلسطين، وهي الأرض المقابلة للسماء، وهي أرض الجنة.
ومفهوم الأرض في الآية :{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}
هذه الآية تقول : {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض (من حيث هي أرض) يرثها عبادي الصالحون}(الأنبياء : 105) أيُّ جنس للأرض يرثها عباده الصالحون.
التطبيقات في الماضي صدقت على وراثة فلسطين للمسلمين من بني إسرائيل.
والتطبيقات في الحاضر سائرة في حدودلم تتم بعد لوراثة الأرض الكاملة، ولكن حديثا لرسول الله يصرح صراحة بأن ملك أمة محمد سيبلغ يوما دون تحديد للزمان أو المكان جميعَ أقاصي الكرة الأرضية، يقول رسول الله : >إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال : يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يُهْلك بعضاً، ويَسْبي بعضهم بعضاً<(رواه الترمذي وصححه الألباني).
وهذا ينسجم كل الانسجام مع الآيات الصريحة في أن هذا الدين سيظهر وينتصر على كل دين : {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودينالحق ليظهره على الدين كله}(التوبة : 33).
هذا الظهور على الدين كله هو ما تم في حياته ، يقول بعض المفسرين بأنه تم الظهور بالحجة، وغلبت حجةُ الإسلام في شخص رسول الله وشخصِ الصحابة رضوان الله عليهم من بعده، أي غلبت حُجّة الإسلام حجةَ اليهود الذين كانوا في الجزيرة العربية، وغلبت حجة النصارى الذين كانوا في الجزيرة العربية.
ولكن الدين من حيث هو دين -بقطع النظر عن أنه دين الله أو ليس دين الله {لكم دينكم ولي دين}(الكافرون : 6) فالمجوسية دين والدهرية دين، أي كل من عَبَدَ غَيْرَ الله فقد دان بدين ليس هو دين الله-، فظهورُ هذا الدين على جنس الدين -كيفما كان- لم يتم على عهد رسول الله .
ولذلك ذهب بعض العلماء في القديم وفي الحديث إلى أن هذا الظهور مستمرٌّ عبر التاريخ وسيكمل في التاريخ، في حديث حذيفة بن اليمان المشهور في صحيح البخاري >كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدْرِكَنِي، فقلتُ يا رسول الله هل بعد هذا الخير من شرٍّ قال نعم، قلتُ : وهل بعد ذلك الشر من خير، قال : نعم وفيه دَخَنٌ قلت ما دخنه؟ قال : أناس يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر<.
أي أن خيرا عظيما سيأتي، ولكنه لن يكون كالخير الأول بالضبط، لن يكون صافيا نقيا كما كان أيام رسول الله . لكنه خيرٌ شهد له رسول الله بأنه خيرٌ، وإن كانت تشوبه شوائب لكنها لا تخرجه عن أن يوصف بأنه خيرٌ من جنس الخير الأول، إلا أنه شيب بشوائب لا تضره الضرر التام.
وما بدأ يلوح في الأفق الآن من بوادر الاستئناف، بوادر العودة بناء على حديث رسول الله : >بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء< بدأ الإسلام أول مرة غريبا، الناس من حول المسلمين هم على خلاف ما عليه المسلمون وينكرونهم ويرفضونهم، وسيضعف الإسلام ويضعف إلى أن يصير الأمر إلى الحال الذي يعود به الأمر من جديد إلى غربة كالغربة الأولى، وفي تلك الغربة يستأنف الإسلام سيره من جديد أي سيرجع، ذَهَب وسَيَعُود، وهاته الغربة الموجودة تتفاوت من بيئة إلى بيئة. وهؤلاء الغرباء كما في حديث هرقل مع أبي سفيان المشهور : أيزيدون أم ينقصون؟! قال يزيدون.
فأمر الخير يزداد في العالم، من أبصَر الآن المستقبل انطلاقا من الحاضر والماضي القريب استطاع أن يرى رأي العين لمن الخلافة بعد؟!؛ ولمن السيادة بعدُ في هذه الأرض؟!.
من أبصر بنور الله تعالى استطاع أن يرى المستقبل رأي العين. وإن إحصائيات كثيرة، ودراسات مستقبلية قامت بها الجمعية العالمية للدراسات المستقبلية، أكدت أن القرن القادم هو للإسلام، إنسانُه سيكثر وأتباعه سيكثرون وسيُمَكَّن لهم، والسيادة الحقيقية ستكون لهم، بناء على دراسات ميدانية للماضي القريب والحاضر الحالّ؛ انطلاقا من واقع الثروة، وانطلاقا من واقع الإنسان، وانطلاقا من واقع اتجاه التاريخ، وانطلاقا من صلابة الأساس الذي تتكون منه الشخصية القوية الصلبة. فأقوى تحدٍّ موجودٌ الآن لغير الإسلام هو الإسلامُ.
ما عاد المشكل في العالم الآن أمام اليهود النصرانية ولا الشيوعية ولا البوذية ولا أي خرافة أخرى إنه شيء واحد وحيد هو الذي يقض المضاجع في كل نقطة إنه الإسلام، إنه العملاق النائم أو المارد النائم كما عبر أحد المستشرقين الألمان -شنبغلر- في كتابه الذي ترجم بعنوان (الإسلام قوة الغد العالمية).
هم يفعلون هذا ليس حبًّا في الإسلام وإنما لتخويف أقوامهم من خطورة هذا الكائن الذي يتهدد كيانهم في نظرهم، ولكنهم من حيث لا يشعرون {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين}(الحشر : 2).
هناك فرق بين القوة الضارية الآن المهيمنة الطاغية والتي هي وإن بدا أنها في العنفوان، هناك فرق بينها وبين تلك النباتات الضعيفة التي تنبت في الأرض والتي إذانظرنا إليها في الخارج _ في فصل الربيع _ نشعر بعد شهور بتبدل الأرض ويصير لون الأرض هو لون تلك النباتات التي كانت ضعيفة، لأن الأرض تتبدَّل من تحتُ، لا من فوقُ، والكائنات الموجودة الآن في مختلف الأمم، ولا سيما في هاته المهيمنة نابتَتُها الجديدة ليست لها تلك الصلابة التي للنابتة في ديار الإسلام.
فالتمكين في الأرض والاستخلاف وُعِدَ به الذين آمنوا وعملوا الصالحات : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}النور : 55) وَعَدَ من؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يرثها من؟ عبادي الصالحون، من هم الصالحون؟ {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين}(العنكبوث : 9).
والصالحات على رُتَبٍ أولها الفرائض ويوضحها الحديث القدسي الصحيحالمشهور : >من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه<(رواه البخاري) والفروض العينية أولا؛ ثم فروض الكفاية، وكل ذلك واجب. فالإسلام بأركانه، والإسلام بفرائضه هو أحب ما يحب الله سبحانه وتعالى، وهو أول الدرجات في سُلَّم الصعود في معراج الصلاح، ثم بعد ذلك يقول الحديث : >ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينَّه ولئن استعاذني لأعيذنه<(رواه البخاري).
إنها درجة عليا يصل إليها نفر من الأمة، ولكن الرحمة في هذه الدنيا كالنقمة تَعُمَّ، الرحمة تعم، قد يرحم الإنسان غيرُ الصالح بوجود الصالحين إلى جنبه، كما في الحديث المشهور الذي قال الله فيه للملائكة : >أُشْهِدكم أنني قد غفرت لهم، (فقالوا له) : فيهم فلانٌ ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم<(رواه البخاري).
فــالرحمة تنــزل على الجميع وكذلك المصيبة والنقمة {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}(الأنفال : 25) وذلك وضحه رسول الله في حديث آخر عن النعمان بن بشير رضى الله عنهما عن النبى أنه قال : >مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا فى نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاًَ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً<(رواه البخارى وأحمد والترمذى)
فبعضهم كان حظه في الأعلى وبعضهم كان حظه في الأسفل، فالذين هم في الأسفل اجتهدوا اجتهادا >لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا< فنحصل على الماء فلا نؤذي من فوقنا، لأنهم كانوا إذا أرادوا الماء يصعدون إلى فوق : فهذا الخارق سيُفسد بِنِيَّةِ صالحة؛ هذا قال فيه رسول الله : فلو أخذوا على يده أي الخارق لنجا ونجوا ولو تركوه لهلك وهلكوا<.
وكل مُنْتَهك لحرمة من حرمات الله خارق لسفينة الإسلام، فكم هي الخروق التي في هذه السفينة؟؟ في أي مستوى نحن من عمق البحر؟
فيجب التوبة النصوح كما قال الله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا}(التحريم : 8) والتوبة النصوح هي التي يكون فيها إصرارٌ على عدم الرجوع إلى الذنب، وإن رجع العبد بعدُ يغفر له سبحانه وتعالى : {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}(النساء : 110).
خــاتمــة
> فإذن الأرض بمعنى فلسطين وراثتها للمسلمين وينص على ذلك الحديث الصحيح للإمام البخاري ومسلم : >لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلوهم حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود<(رواه البخاري ومسلم).
هذا الشجر موجود الآن حول بيت المقدس، واليهود يتجمعون لقدر تاريخي منتظر قادم في نقطة تسهِّل تطبيق هذا الحديث على المسلمين. ما حدث هذا قبل، ورسول الله لا ينطق عن الهوى، يخبر بالغيب اليقين الحق. واليهود من قبل ما كانت لهم نقطةٌ منها يقاتلون. الآن يكونون هذا الوطن المغضُوب الذي يتجمعون فيه لقدر محتوم.
> والأرض بمعنى الكرة الأرضية وراثتها أيضا بعد للمسلمين الصالحين بناء على الحديث الآخر : >إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها…<الحديث المتقدم.
> والأرض بمعنى الجنة أيضا للمسلمين الصالحين {وتلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}(الزخرف : 72)، {الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}(الزمر : 74).
إننا ينبغي أن نفقه الدين وأن نفقه الواقع وأن نفقه التاريخ وتوجُّهَه المستقبليَّ لنعرف من نحن وما نحن لنحسن الاستعداد للغد، سواء الغد على الأرض أرض الكرة الأرضية، أو الغد على أرض الجنة. جعلنا الله وإياكم من خلق الجنة لا من خلق النار والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
——–
(ü) محاضرة ألقيت منذ سنوات ولم نستطع ضبط تاريخها.
أد.الشاهد البوشيخي