عظمة محمد
محمد إنسان بشهادة القرآن، والقرآن الكريم كتاب الله نص على أن محمداً إنسان. كان محمد إنساناً قبل أن يكون نبيّاً، وكان في سريرة نفسه إنساناً يخضع للضعف الإنساني، ذرف الدمع الساخن يوم مات ابنه ابرهيم، وعانى كسائر البشر من نوائب الدهر، تألم لفراق الأحبة، وطعنات الأعداء، فوُصف بالمجنون والشاعر والكاهن، وذاق سكرات الموت.
أحبك يا رسول الله، لأن في سريرتك الإنسانية ذخائر من الصدق والروحانية والوفاء والرأفة، قال تعالى : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم}(التوبة : 129).
أليس دينك الحنيف هو الدين الذي تفَرَّد بالنص على أن المرء يتصل بربه بلا وسيط، قال تعالى : {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان}(البقرة : 185).
أحبك يا رسول الله، وأشتهي أن أتخلق بأخلاقك السامية، وقد زكّاك الله بها فقال : {وإنكلعلى خلق عظيم}(القلم : 4).
أحبك لأنك جعلت الحرب في سبيل الحق شريعة من الشرائع.
أحبك يارسول الله لأنك أعلنت حبك لطيبات الحياة، وأنكرت الرهبنة والانزواء في المعابد والمساجد.
أحبك لأنك أعززت الشخصية الإنسانية يوم أعلنت بأنها تتعرض للخطأ والصواب.
أحبك لأنك حاربت الشح، وحاربت العبوس، وحاربت اليأس، وحاربت الغش، كنت إنساناً قبل أن تكون نبيّاً ورسولاً، وتلك الإنسانية هي التي فتحت صدرك للصفح والعفو عن هفوات الناس، وهي التي جعلتك تنظر إلى ضعفهم بعين العطف، وهي التي جعلتك تذوق ملوحة الدمع في بعض الأحيان.
أحبك يا رسول الله لأنك جئت تحمل رسالة موجهة من الخالق سبحانه إلى مخلوقه الإنسان، الذي هو الهدف من رسالتك، ولتكون الحياة الانسانية نفسها هي مدار الإيمان، هي محور العبادة، هي مستقر الأخلاق، هي الدنيا، وهي كذلك الطريق إلى الآخرة.
إن رسالتك يا رسول الله ليست كلاماً جميلاًفحسب، إنما هي رسالة ترسم للحياة العملية الحقيقية المجسدة طريقها.
إن تاريخ الإسلام -الشامخ- في قوته ونصاعته تاريخ لأعمال عظيمة اضطلع بها أصحابها ليقيموا بها قواعد حضارة جديدة على وجه الأرض، وإذا كان الإسلام قد صعد كما صعد، فبأعمال العاملين في سبيل الله وفي سبيل الإنسان، وإذا كان قد هبط فلأن معنى الإيمان به قد تراجع في صخب الحياة، ليقنع الإنسان بالتعاويذ والهمهمة بين الشفاه.
أحبك يا رسول الله لأنك جئت للناس بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً، قال تعالى: {يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيراً}(الأحزاب : 45- 46).
أحبك يا رسول الله لأن عظمتك تجلت في صحابتك الكرام -رضوان لله عليهم- الذين أوصلتهم إلى مرتبة العظماء بحق، بعدما كانت نفوسهم متباينة عاشت في مجتمع الجاهلية بكل ما فيه من ضلال ووثنية، ولا يجيد أهله إلا القتل والثأر، إلا اللهو والعبث، إلا الركوع والسجود لعبادة اللات والعزى، حتى كنت يا رسول الله ، حتى ظهرت فيهم، فجمتعهم من حولك، وأخرجتهم من الظلمات إلى النور، وألفت بين قلوبهم ثم أوصلتهم إلى هذه المكانة العظيمة.
هنا تكمن عظمة محمد لمن يبحث عن أوجه العظمة العديدة لحضرته في هؤلاء الرجال الذين جعل منهم عظماء، فجاء التعبير القرآني وهو يصفهم : {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفاررحماء بينهم}(الفتح : 29). ومن هؤلاء الرجال العظماء : أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب، وحمزة، وخالد، وبلال وعمار بن ياسر وغيرهم كثير. لقد كان حبهم الشديد لرسول الله هو الذي جمعهم جميعاً حوله، حتى كانوا كما قال رسول الله عنهم : >أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه<(مسلم). فما زال هذا التأثير المحمدي قائماً -والحمد لله- في الوجود بدوام وجود أمته، لا يعوقه المكان، ولا يحده الزمان، قال تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله..}(الحجرات : 8).
في الوقت الذي نستنكر فيه بعض الممارسات المشينة من أعداء الإسلام ورسوله، فإننا نستنكر في الوقت نفسه الجفاء في محبة رسول الله من طرف أتباعه في القيام بواجبهم الشرعي نحو دينهم، فكما أن التطاول على مقدساتنا مرفوض ومردود، فكذلك التقاعد واللامبالاة من طرف المسلمين مرفوض ومردود أيضاً، قال تعالى : {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}(التوبة : 32).
ذ.احمد حسني عاشور