مهـداة بمناسبـات العالم اليومي للمرأة!!
بعد سنوات من البحث والتحصيل في ديار الغربة تحقق لها ما كانت تصبو إليه، ونالت الدكتوراه.
بعد عودتهـا للوطـن الأم، التحقت بالعمـل في مستشفى عمومي فتسلقت السلالم فلمع اسمهـا وذاع صيتهـا وتألق نجمها وعلا كعبهـا، فصارت تناظر وتحاضر في الملتقيات والمنتديـات، فالرغبة الجامحة في إبراز الذات وفرض الوجود، فأعماها الغرور وحب الظهـور فلم تعد تصغي لنداء الفطرة، وأطلقت العنان لرغباتهـا رافضة الزواج، فصدت كل من تقدم إليهـا خشيـة أن يتدخل أحد في حياتهـا الشخصيـة وأن يقلص من هامش حريتهـا.
مضت الأيام والأعوام ومضت معها الأناقة والرشاقة واللباقـة والطلاقـة، وبدأت زهرة شبابهـا تذبل، ومعالم أنوثتهـا تضمحل، فبعدمـا كانت تصمم أصبحت ترمم، فلم تعد المساحيق تجدي نفعـا ولا عمليـة التجميل أيضا، فسقطت كل الأقنعـة وبدأت تصغي إلى نداء الفطرة وإن حاولت أن تتجاهـل وتظهر غير الذي تضمر، فبدأ العد العكسي يلوح في الأفق والعقد الرابع يلتف حول العنق فتلمح دون أن تصرح، وقد يغنـي التلميح عن التصريح وكل من يتقدم إليهـا لا تهمه الخلقة ولا الخلق فلا يسأل عن شيء! إلا عن راتبهـا الشهري ورصيدهـا البنكـي؟ لأنه لا يريدهـا شريكـة حيـاة بقدر ما يريدهـا دفتر شيكـات، وهي تحاول أن تقنع نفسهـا بكلمـات لطالما رددتهـا أكثر من مرة فتقول :”المـال والشهـرة يأتي بدل واحدٍ عشـرة. فبدأت تفكـر في المشاريع التي تدر عليهـا الأموال فرهنت نفسهـا للبنك واقترضت لتمويل مشروع، فبنت مستشفى استثمـاريا واستوردت أحدث الأجهزة ومختلف التخصصات فتحسنت وضعيتهـا الماديـة وازداد طموحهـا، فازداد طمعهـا وجشعهـا وصرخات الفطرة تزداد في صمت. وبدأت تصغـي بجد لكن كبرياءهـا يحول دون ذلك، إلى أن وقع اختيارهـا على أحد أشبـاه الرجال يصغرهـا بنصفعمرهـا ويعمـل عندهـا ممرضـا وسائقـا، بعدمـا وافق على جميع بنود الاتفاق والتي تنص على عدم التدخل في الشؤون الداخليـة وبعدما وقع على المعاهدة، مر شهـر العسـل وهو لا يرفض لهـا طلبا مهما كلف الثمـن، وبدأت تصحبه أينما حلت وارتحلت، وكانت تشعر بالحرج عندما تقدمه إلى الشخصيات الرسمية فتارة تقول هذا مدير أعمالي ومرة تقول هذا حارسي الشخصي، وحسب ما نصت عليه الاتفاقية لا يتدخل في شيء لا يعنيه؟، لأنها لا تعنيه! فلم يعرها أي اهتمام، فلا يسألها أين؟ وإلى أين أنت، فات الشيء حده وانقلب إلى ضده، فصارت هي تسأله وتتنصت على مكالماته بواسطة تحر خاص. ونداءات الفطرة وصرخات الأمومة تزداد كلمـا رأت طفلا يداعب أمه، وبمـا أنها طبيبة وتعرف موقعهـا في هذه الجغرافيا، فهي بنت في الأرض الخصبة والآن تزرع في الأرض الصلبة وسن اليأس يزيد من يأسهـا، والعقد الخامس يلتف حولهـا والتشاؤم ينتابهـا. مضت الشهور ولم تظهر البوادر فبدأت تجري الفحوصات والتحاليل فنصحهـا الأطباء بالتلقيح الاصطناعي، فكل محاولة باءت بالفشل، وبدأت الاضطرابات النفسية تبدو جلية على محياها، وكلمـا اقتربت عقارب الساعة من السابعة صباحا تقض مضجعها وتستمطر دمعهـا فتركب سيارتها خلف السائق متوجهة إلى مقر عملهـا، تحس وكأنها في سيارة إسعـاف متوجهة إلى مثواهـا الأخير، تدخل مصحتها وكأنها في زنزانة، تلبس معطفهـا الأبيض كأنه كفن أو لباس حداد، تضع سماعة في عنقهـا كأنها حبل المشنقة، فبدأ اليأس يراودهـا والكآبة لا تفارقهـا، فهي تعالج الالتهـاب ولا تعالج الاكتئـاب، عرضت نفسهـا على المختصين في الأمراض النفسية وتم هذا في كامل السرية وسرعان ما انتشر الخبر كالنار في الهشيم، كيف لا وهي الطبيبة الجراحة الماهرة!؟، فهي أشهر من نـار على علم!!، فأثر ذلك سلبا على مستقبلهـا المهني، ولما أوشكت على الإفلاس ادعت الاختصـاص؟!، اختصت في أمراض النسـاء، فصارت تولد وتجهض، فعُرضت عليهـا حالة من بين العشرات، وقبل إجراء العمليـة القيصرية طلبت الأم (العزباء) وتوسلت للطبيبة أن تخلصهـا من الجنين ، فشفعت لها الأمومة التي تصرخ في الأم المحرومـة، شريطة أن تتكفل به وبالفعـل تبنته وآنست الأم المربية ونست الأم (الطبيعية). مرت الشهور والأعوام والطفل ينمـو أمام عينيهـا ويترعرع بين أحضانهـا. وهيأت له كل ما يلزم من حاجيـات وكماليـات، لكن شيئـا في داخله كالبركان يكـاد ينفجر!!، أما الزوج المتصابي فقد ضاق به ذرعـا منذ أن كان صبيـا، والاختلاف يسبب الخلاف،والخصام يسبب الفصـام، فأخبر الفتى بنصف الحقيقـة؟ فوقع عليه الخبر كالصاعقة!!، فانهارت قـواه ولم تستطع ساقاه أن تحملانـه، ذهب إليهـا وأخذهـا من تلابيب ثوبهـا وقال لهـا: أخبريني بالحقيقة؟ فحاول الأب المزيف أن يلعب دور الأب الحنون ونظراته تكشف مزاعمـه!، أما هي فلم تستطع أن تتحمل وقع الصدمـة فانهارت أعصابهـا، فنقلت إلى المستشفى مغمى عليهـا، لم تستفق إلا وهي في غرفة الإنعاش تحت العناية المركزة تهذي وتهلوس؟!، وهو يحـاول اقتحام غرفتها والأطباء يحولون بينه وبينهـا. وما أن استعادت عافيتهـا حتى أخبرته بالحقيقـة كاملة ودلتـه على أمه…، ذهب إليهـا بعدمـا نبذهـا الجميـع ووصمة الفقر والعار باديـة على جبينهـا المتجعد! بعدمـا كانت تعمل سكرتيرة بوجه أنيق ولسان لبق وجسم رشيق… سألهـا عن أبيـه!؟؟، أجابته أنه ابن سِفَـاح وليس ابن نكـاح…، ثم أجهشت بالبكـاء، وحاولت عبثـا أن تضمه إليهـا فصدهـا وقال لهـا: لا تضيفي كلمـة ولا تذرفي دمعة، من هو؟ وأين هو؟ ولم يرد أن ينطق باسم أبي؟؟!، فلما ذهب إليـه رفض الاعتراف بهمـا بدعوى أنه رجـل مسؤول ويخشى على سمعته بين رجـال المـال والأعمال، ورجـال الساسة والسياسة!!، وأبدى استعداده لمساعدتهمـا وسلمهما شيكا موقعا على بياض…، فأجهشت مرة أخرى بالبكـاء فخاطبهـا بكلام غليظ قائلا: “كفكفي دمـوع التماسيح فإني لا تخدعني الدموع”… أجابه الفتى: “نعم، لا تنفع الدموع بل تنفع الدمـاء لكي تريح وتستريح” فقتلهما وانتحر.
شـاع الخبر ووقع عليهـا كالصاعقـة فصدمـة هذه المرة أشد وقعـا من سابقتهـا، وتوالت الصدمـات وتعالت الصراخات، والصدمة الأخيرة أعادت لها الذاكرة بعدمـا حجز البنك على ممتلكاتها، فبدأت تلملم أطرافها وتضمد جراحها وتسترجع ذاكرتهـا، وذكرياتها فأيقنت أن مشكلتهـا لا تحل في بكين ولا في لاهـاي!! وأن حريتهـا ليست بيد قاسم أمين ولكنها بيد أبي القاسم الأمين وأن المرأة مهمـا تقلدت من مناصب وحققت من المكاسب تبقى الأمومة أسمى وأرقى من كل شيء، وصرخت قائلـة :”خذوا شهادتي وحريتي الزائفـة! وأعيدوا لي حرمتي وكرامتي وأعطوني زوجـا كفنـا، وأسمعوني كلمـة أمي…” فظن الجميع أنها اختلت من وقع الصدمة وهول الكارثـة!، وبدأت هي رحلة جديدة في البحث عن ذاتهـا وسعادتهـا وحرمتها وكرامتها وسر وجودهـا!؟؟.
علي الحقوني