كلنا نعلم أن الدعوة الإسلامية مرت بعهدين متميزين بسمات وخصائص، رعت فيهما البناء التدريجي القوي لنماذج إنسانية رائعة، مستسلمة للتوحيد، معتزة بحريتها القائمة على أساس العلم والقراءة.
تلازم المعرفة والتوحيد في الخطاب المكي
فكان أول ما بدأ به القرآن الكريم في العهد المكي الدعوة إلى أمرين جعلهما متلازمين : المعرفة والتوحيد، أي إثبات أن الطريق إلى توحيد الله يبدأ بالعلم الذي مصدره تعالى من خلال قوله في أول آية نزلت: {اقرأ باسم ربك}، التي أسست قاعدة التصور الإيماني العريضة(1). وأدرك الإنسان أن أي عمل يقوم به، مهما كان، مرده إلى الله تعالى. وكلما كان الإدراك صحيحا قائما على علم ومعرفة كان العلم بتوحيد الله أعمق، وكان السمو بمفهوم التوحيد في النفس تحقيقا للتحرر والانعتاق من كل ما يمس عبوديته تعالى. ومن هذه البداية الربانية ظلت الدعوة طيلة العهد المكي تُصحح العقيدة في النفس الإنسانية، حتى إذا نزلت التشريعات والتنظيمات في العهد المدني، كان الإنسان مهيئا لاستقبالها من أجل تنظيم حياته، وحياة المجتمع الإسلامي من حوله، وتنظيم العلاقات الإنسانية برمتها. ذلك أن العقيدة لها تأثير في تسيير الإنسان نحو وجهة معينة، وفق تصور يستمد أصوله ومرجعياته وأخلاقياته مما استقر في نفسه منها، لأنه بحكم فطرته وتكوينه مجبول على أن يكون له تصور ما لنفسه ولما يحيط به، سواء وعى ذلك أم لم يع، يتشكل من خلاله نمط سلوكه وتفكيره، ويحدد علاقاته بخالقه وبنفسه وبغيره من البشر، وبالكون وبالحياة برمتها.والقرآن الكريم حافل بتناول القضايا العقدية، والدعوة إلى التوحيد ومجانبة الشرك والإلحاد، فالموضوع المركزي فيه هو تثبيت عقيدة التوحيد في القلوب والعقول، ومنه تتفرع سائر الموضوعات. وإذا كانت السور المدنية تفصل في موضوعات التنظيم والتشريع من أجل بناء المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، فإن السور المكية تفصل في موضوعات التربية والتزكية من أجل بناء الإنسان، رجلا كان أم امرأة، وبناء شخصيته المتميزة. ومن أبرز القضايا التي تبسطها هذه الموضوعات قضية التوحيد. ويمكن اعتبارها القضية المحورية الكبرى التي تتفرع عنها مختلف القضايا الأخرى من مثل التعريف بالله عز وجل من خلال أسمائه وصفاته وآياته في الكون، وقضايا المصير الإنساني والتحرر والجزاء والرزق وغيرها من القضايا التي كانت وما زالت مصدر توجيه وأسس بناء.
خطاب يصوغ شخصية المرأة
وقد تلقت المرأة المسلمة هذه الموضوعات والقضايا في فجر الدعوة وبعدها، وكانت الأداة الحاسمة التي صاغت شخصيتها ووجهتها، ويمكن أن تكون كذلك للمرأة المعاصرة إذا أحسنت الإصغاء إليها.
ويمكن تصنيف الآيات المكية التي جاء فيها ذكر المرأة وكان لها تأثير حاسم في بناء شخصية المرأةالمسلمة في المحاور التالية :
> 1- إقرار المساواة في الإنسانية والتكليف بين الرجل والمرأة والتكامل بينهما : إن أول ما يطالعنا في الخطاب المكي هو ترسيخ إنسانية المرأة كالرجل في قوله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دَعَوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين,فلما ءاتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}(الأعراف:189)
إن الآية تبين أصل البشرية الذي يرجع إلى نفس واحدة، الأمر الذي يوضح عدم أفضلية أحد الجنسين على آخر، وبالتالي فالمرأة والرجل في المنظور الإسلامي ينزلان منزلة متساوية من حيث القيمة والتكليف وبلوغ أسمى درجات الكمال التعبدي. والمتأمل في الآية يجد أن المساواة بينهما ليست مساواة تطابق، وإنما هي مساواة تتبنى مفهوم الاختلافات البيولوجية والنفسيةوتكامل الأدوار الحياتية بينهما. وأي خلل يصيب هذا المفهوم يؤدي إلى انتقاص من شخصية المرأة وأنوثتها وخصوصياتها، وبالتالي تثبت تبعيتها للرجل أو المواجهة بين الجنسين المستنزفة لطاقاتهما أو التماهي الجنوسي المفضي إلى تقويض الأسرة. وحقيقة الأمر أنه آن الأوان بعد التخبطات التي تعيشها المرأة والرجل معا والمجتمع برمته أن تُعطى الأهمية لتكامل الوظائف بينهما حسب الرؤية الإسلامية الشمولية، من غير أي شعور بالسيطرة أو الدونية أو الصراع على الندية(2).
وقد وردت الآية السابقة في السياق العام لسورة الأعراف التي تعرض قصة العقيدة في التاريخ البشري منذ نشأتها الأولى، وسلسلة الصراع بين الحق والباطل المبتدئة منذ أن تعرض آدم وزوجه حواء لعصيان ربهما بأكلهما من الشجرة التي نهاهما عنها، يقول تعالى: {فقلنا يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، قال اهبطا منها جميعا، بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}(طه:117- 124). ففي الآية إقرار بتحميلهما معا المسؤولية وتكليفهما باتباع الهدى، يقول الطبري:”فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس وخالفا أمر ربهما فبدت لهما سوءاتهما”(3). كما أن الآية رد صريح على الأمم الأخرى التي تعتبر حواء مصدر الخطيئة، وتطبيق واضح للمسؤولية الفردية في تبعية الاختيار والتكليف التي هي إحدى دلالات الخطاب المكي {ويأتينا فردا}(مريم : 80). ويذكر الخطاب المكي الرجل والمرأة باستمرار بمساواتهما في الأصل، وأنه لا غنى عنهما معا في استمرار النسل: {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذاتُمنى}(النجم:45- 46). ومساواتهما في الخَلق والجزاء: {أيحسب الإنسان أن يُترك سدى، ألم يك نطفة من مني يُمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}(القيامة : 36- 40). والإقرار بالمساواة في الإنسانية والمسؤولية يسلم الباحث إلى المحور الثاني الذي ورد فيه ذكر المرأة في الخطاب المكي.
> 2- الإقرار بمسؤولية المرأة عن عملها واختيارها: من التوجيهات القرآنية في العهد المكي التنبيه على مسؤولية الإنسان عن عمله، وتلقيه الجزاء من جنس ذلك العمل، يقول تعالى : {وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى}(الليل :3- 4)، فسعي الإنسان، ذكرا أو أنثى، هو الذي يحدد مصيره: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}(الليل : 5- 10). والجزاء من جنس العمل وليس من جنس الإنسان. ويقول تعالى : {من عمل سيئة فلا يُجزى إلا مثلها، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يُرزقون فيها بغير حساب}(غافر: 40)، وهي آية تعد ميثاقا أصبحت المرأة بموجبه تحتل مكانتها الطبيعية، ووعت في ظل هذه الدلالات التحررية أن القرآن الكريم يريد أن يجعل منها شخصية قادرة على تحمل أمانة الاستخلاف في الأرض، وأمانة الاختيار الصحيح المؤدي إلى الحياة الطيبة، يقول تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون}(النحل: 97). وهذا وعد من الله تعالى للإنسان عن الاختيار الصحيح “العمل الصالح”. ونجد نماذج نسائية لها مسؤولية الاختيار وتحمل النتائج والجزاء في قصص زوجات لوط ونوح وفرعون والعزيز وقصة ملكة سبأ تؤكد حرية المرأة في التصور والاختيار والعمل.
> 3- التأكيد على مكانة المرأة ودورها في الحياة الأسرية: ويظهر التأكيد والدور الحيوي الذي تقوم به المرأة في مثل قوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}(لقمان: 14)، فرغم أن الوصية بالوالدين معا، إلا أن التركيز هنا على الأمومة ودورها في الحياة الأسرية. وفي القصص القرآنية التي تعرضت للمرأة نجد توجيه الآيات المكية لتشكيل شخصية نسائية يمكن أن تحتل كل المواقع انطلاقا من وظيفتها الأسرية، من مثل قصتي أم موسى ومريم اللتين تمثلان شخصية المرأة المؤمنة الصابرة القادرة على مواجهة كل الصعاب بالإيمان والعمل، وقصة سارة امرأة إبراهيم التي تمثل صبر المرأة واختيار مشاركة زوجها في كل أمور الحياة ، وقصة ابنتي شعيب التي تشير إلى القواعد الأساسية لتصرف المرأة المؤمنة خارج البيت، وطريقة معاملتها المتميزة بالاحترام والأدب والرحمة. إن المرأة في الرؤية الإسلامية تكتسب فاعليتها وقيمتها من مكانتها في الأسرة، ودورها المستمر في عمليات بناء الإنسان الحضاري، من خلال هذه المكانة يمكن أن تضع العالم بين يديها وتوجهه حسب طاقاتها وقدراتها، وأي عمل ناجح صالح خارج هذا المجال يضفي الكمال والجمال عليه، ويعكس قيمتها وقوتها وفاعليتها، ومدى تمثلها لمفهوم السكن القرآني، يقول تعالى : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الروم: 21). وهنا إشارة واضحة إلى حاجة الإنسان النفسية للاستقرار والهدوء والمشاركة في الحياة، أي الحاجة إلى إنسان يكون جزءا من نفسه، يتناغم مع الحياة بنفس النغمات والأحاسيس، كي يسكن إليه من صخب الحياة وضجيجها واضطرارها وتعقيدها(4). وقد عبر سبحانه بـ”لتسكنوا إليها” لما في مفردة السكن من دلالات الطمأنينة والأمان والراحة، وأتبعه بقوله تعالى {وجعل بينكم مودةورحمة} للتعبير عن تبادل وتشارك كل المشاعر والعواطف بين الزوجين، المنبثقة عن علاقات التكامل وحاجة كل منهما للآخر، وامتلاكه لخصائص فطرية كفيلة بتحقيق السعادة الأسرية والاجتماعية التي تمر عبر شريكه في الحياة.وهذه هي الصورة المثلى للحياة الزوجية التي جعلها الله آية من آياته في الكون والخلق. ويضيف الله تعالى لدلالات السكن في الحياة الأسرية معاني الاستمرار والامتداد في الزمن، يقول تعالى : {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات}(النحل: 72)، ومعاني الخلود سواء في الجنة كما في قوله تعالى :{ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}(الزخرف: 70) أو في النار كما في قوله تعالى : {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}(الصافات: 22-23). وهذه الصورة التي تحتل المرأة مكانة متميزة فيها، وتستوجب حضورها في البيت وقيامها بوظائفها وواجباتها بجانب الرجل، لا تنفي عنها شخصيتها المستقلة، أو تستلزم تبعيتها للرجل، ويمثل الخطاب المكي بآسية زوجة فرعون بوصفها رمزا لاستقلال الشخصية والتشبث بالهوية العقدية يقول تعالى: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رَبِّ ابْنِ لي عندك بيتا في الجنة ونَجِّنِي من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين}(التحريم: 11).
وفي سياق الآيات المكية التي ذُكرت فيها المرأة لا يمكن إلا أن نقف وقفة إجلال وانبهار بشخصية عظيمة في تاريخ الدعوة إلى الله وتصحيح عقيدة التوحيد هي بلقيس ملكة سبأ التي “أوتيت من خصال الملوك ومن ذخائرهم وعددهم وجيوشهم وثراء مملكتهم وزخرفتها ونحو ذلك من المحامد والمحاسن”(5) ومع ذلك اختارت الطريق الصحيح وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين. ودلالات هذه الآيات وغيرها وجدت صداها في واقع المرأة وسلوكياتها وعلاقاتهاالأسرية والاجتماعية في فجر الدعوة وبعد ذلك، وكان لها تأثير في إعادة بناء شخصيتها وتصحيح عقيدة التوحيد في نفسها. وإذا أرادت المرأة أن تخرج من النفق الذي وجدت نفسها فيه مع الرجل فعليها باستنطاق القرآن الكريم وتفعيله في سلوكياتها وممارساتها.
————
1- في ظلال القرآن، سيد قطب:
2- تناولت هذا الأمر بتفصيل في كتابي المخطوط “بناء الشخصية
النسائية المسلمة”
3-جامع البيان في تفسير القرآن، المجلد 8، ص 162.
4- انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب، المجلد 5. ص 2763.
5- تفسير التحرير والتنوير ، لابن عاشور، مجلد 18-19، ص253.
دة.أم سلمى