بِنَبْضِ القلب
حدود السخرية
تبدو الحدود الفاصلة في مجال الكتابة الأدبية بين السخرية والتهريج جد عائمة، نظراً لكون الأولى تؤسس للون إبداعي نادر، يسعى من خلاله المبدع إلى غرز شوكته في لحم أعداء المجتمع وأعداء الأمة من غير أن يطاله مقص الرقيب أحيانا، وقد تبلغ السخرية مداها حينما يستطيع المبدع الساخر جعل خصومه يضحكون من أنفسهم، وتلك قمة المتعة الفنية، وقد أسس لهذا اللون الكوميدي العالمي شارلي شابلن، حينما استطاع أن ينتقد الفوارق الاجتماعية ويضحك الأثرياء على أنفسهم، وينتقد شرههم للمال من غير أن يفقدهم كجمهور ويؤجج عداءهم له.
وإلى جانب هذا اللون هناك ما يمكن تسميته بالسخرية النبيلة وهي التي أسس لها الكاتب الأمريكي الساخر “مارك توين” هذا الذي استطاع أن يجعل من أحزان الناس مبعثا للفكاهة المُرّة، فكانت كتابته سخرية بطعم البكاء، وقد عبر -نفَسُهُ- عن ذلك بقوله : “إنالكاتب الساخر مثله مثل الطحان الذي لا يميز بين أشكال الحبوب، غثها وسمينها، ومع ذلك يصنع لنا دقيقا من هذا الخليط يسر النظر، وكذلك الكاتب الساخر فإنه يعيش هموم الناس في أفراحهم وأقراحهم ويجعل من كل ذلك مادة ساخرة تفرج عن كربهم ومعاناتهم<.. السخرية إذن ليست ترفا فكريا أو تسكعا وجدانيا بقدر ما هي أداة يقيس من خلالها المبدع نبض المجتمع ويساهم إلى حد ما في رفع جزء من معاناته، إنها فلسفة الضحك من خلال الدموع، والتي قال عنها الشاعر الساخر أحمد مطر :
ويقولون لي اضحك..
ها أنا أضحك
من شر البلية…!!..
أما التهريج، فهي أن يجعل المبدع -إن صح تسمية هذا اللون بالإبداع -السخرية هدفا في حد ذاتها، حينها يحاول أن يبحث عن مواطن الضحك واستفزاز الجانب السلبي في المتلقي وجعله يضحك لأتفه الأسباب، وهي بداية نحو تبلد الإحساس، حيث تغيب ملكة النقد ويركن العقل إلى متعة الهزل الهابط فناومعنى، إن هذا النوع من السخرية قد يتحول إلى حالة مرضية تفسد الذوق العام للمجتمع، وتجعله يسخر أحيانا حتى من القيم الجَميلة والعادات الشريفة التي تؤصل لهويتنا وثقافتنا وعمقنا الحضاري.
ذ.احمد الأشهب