في الوقت الذي كان العالم كله عامّةً والعَربُ بصفة خاصة يحتقرون الأنثى ويعتبرونها مِنْ سَقَطِ المتاع إن لَمْ يئدُوها أويقْتُلُوها كَانَ :
1) يخرج على الناس كلهم وعلى عاتقه ابنةٌ من بناته أو بنات أصهاره بدون تحرُّج أو تأثُّمٍ أو شعور بالعار والفضيحة من إشراقة فراش العائلة بطَلْعَةِ الأنْثى المباركة.
2) لَمْ يكتف بالعَمل المثاليِّ المُحْتذَى بل قَالَ مُعَلِّماً وقالباً الموازين :
< >مِن يُمْنِ المَرْأة تَبْكِيرُها بِأُنْثَى< ليقْلِبَ اسْوِدَادَ وجْهِ الأب بمقدَم الأنثى إلَى إشراقةٍ طافحة بالبِشْر والسعادة بمقدَمها المبارك.
< ويجْعل الجنَّة تحْت أقدام الأُمَّهات.
< وجعل منزلة الأم مقدَّمة على منزلة الأب بثلاث درجات، فقال للذي قال له : مَنْ أحقُ بصحابتي؟! أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمّك.. ثم أبوك.
< ويجْعل الجنة أيضا من نصيب من ربَّى ثلاث أخواتٍ أو بناتٍ فأحْسَنَ تربِيَتَهُنَّ، وتأهِيلَهنّ للفوز بالحياتَيْن.
< بل وجَعَل المرأة والطِّيب مما حُبِّبَ إليْه فقط من كل محبوبات الدنيا.
< بل أكثر من ذلك جعل الدنيا كُلَّها متاعاً وجعَل خَيْرَ متاعها المرأة الصالحةَ.
< وكان أوَّلَ من تشرَّف بالسلام من الله تعالى وتشرف بتَلَقِّي البشْرَى بالجنّةِ أمُّنا الكُبرى خدِيجةُ رضي الله عنها.
< وأوصى بأن يُؤْخَذَ نصْفُ الدين من عند أمِّنا الصُّغْرَى عائشة رضي الله عنها.
< وأخذَ برَأي أمِّنا أمِّ سَلَمة رضي الله عنها في أحْلَكِ ظروف تردُّدَات المسلمين بين الطاعة والعصيان، فكان رأيُها برداً وسلاماً على قلب الرسول الكريم، وخيراً وبركة على المسلمين جميعا.
عَرَفَتْ المرْأة المسلمة هذه المنزلة العظيمة التي رفعها الإسلام إليها فأحبَّتْ هذا الدين، وأحبَّتْ المبادئ التي جاء بها، وأحبَّتْ الرسولَ الذي جاءَ على يده هذا الدين.
< نزلت آيةُ التّخْيير بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله {يَا أَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنّ تُرِدْن الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فتَعَالَيْن أُمَتِّعْكُنّ وأُسرِّحْكُنّ سَراحاً جَمِيلاً وإنْ كُنْتُنّ تُردْن اللّه ورسُولَه والــدّارَ الآخِرةَ فــإِنّ الله أعَدَّ للْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنّ أجْراً عَظِيماً}(الأحزاب : 29)، فعرض رسول الله هذه الآية على عائشة رضي الله عنها أولا، وقال لها : لا تتخذي قراراً حتى تستشيري أبويك، فقالت : >أفِيكَ أسْتأْمِرُ أبَوَيَّ؟! بَلْ أخْتَارُ اللّه تعالى ورَسُولَه والدّار الآخرة< وكلهن اخْتَرْن مِثل ما اختارت عائشة رضي الله عنهن جميعاً.
< استشهِد لأمٍّ ولَدٌ مع رسول الله فقالت له : أخبرْنِي عن ولدي، إن كان في الجنة صَبَرْتُ، وإلاّ صَنَعْتُ ما لم تصنعْه أمُّ أُصيبت في ولَدِها. فقال : >أهبلت؟! وهل هُو في جنّة واحدة؟! إنّه في جنّاتٍ<-أو كما قال – فرجعَتْ بدون أن تذرف دمعةً واحِدةً لأنها اطمأنتْ على مستقبل ابنها في جنة ربها، ونعم المستقبل!!
< والمرأة المشهورة بـ”الدينارية< قيل لها : زوجك مات. فقالت : >ما فَعَل رسُول الله؟< ثم قيل لها : أبوك مات، فقالت : >ما فَعَل رسول الله؟!< وقيل لها : أخوك مات، فقالت : >ما فَعَل رسول الله؟!< فقيل لها : هو بخير، فقالت : أريد أن أراه، فعندما وجدته سالماً، قالت : >كُلُّ شَيْءٍ بعْدَكَ جَلَلٌ< أي هيِّن، أي إذَا سلِمْتَ لَنا لم نفقِدْ شيئا. وماذا يفقِدُ منْ وجَدَ الله والرسول؟!.
< جاء في صحيحي البخاري ومسلم رضي الله عنهما أن الحبشة كانوا يلعبون في المسجد، فقال لعائشة رضي الله عنها : >أتُحِبِّينَ أن تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ؟> فقالت : نعم، قالت : فطَأْطَأَ لِي منْكِبَىْهِ لأَنْظُر إِلَيْهم، وفي رواية : >كان يسْتُرني بِردائِهِ وأنا أنظر إلى الحَبَشَةِ يلعبون في المسجد< لكِنَّ النُّكْتَةَ اللطيفة العميقة هي ما أفصَحَتْ عنه هذه الأم المُدَلَّلَةُ بحُظْوتها في قَلْب الرسول الأعظم، حيث قالت : >ومابِي حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِم، ولكِنّى أَحْبَبْتُ أن يَبْلُغَ النِّسَاءَ مَقامُهُ لِي، ومَكَانِي مِنْهُ<!!.
أيّ أُفُقٍ هذا الذي ارتفعتْ إليه المرأة؟! أفُق اختيار الله تعالى والرسول والدار الآخرة على كل زينة الدنيا؟! أفق التضحية بالأموال والأولاد والأزواج والآباء والإخوة في سبيل حُبّ الله والرسول، وفي سبيل سلامة الدين، وفي سبيل الأمَل في الفوز بالجِنان محطِّ الإكْرامِ والرِّضْوانِ؟!
فهَل نْعْجَبُ من الإكرام الفريد في التاريخ الذي أكرم به رسول الله المرأةَ في شَخْصِ زوجاته الكريماتِ الطاهرات حتى في اللحظاتِ الأخيرة من لحظات الدنيا، فقد استأذنَهن في أن يسْمحْن لهُ بالتَّمَرُّض في بيت عائشة لصعوبة التنقل والطواف عليهن كما كان يفعل في صحّته؟!
فيأذَنَ له، وتحكي لنا أمُّنا الصُّغْرَى اللّحظاتِ الأخيرة من حياته فتقول : إنَّهُ عجَزَ عن مَضْغ السِّواك، بَلْ حتى عن الكلام، فرأتْه عائشة رضي الله عنها و هو ينظر إلى السواك بيدها، فأشارت إليه -مستفهِمَة- هل يُحِبُّ أن تُليِّنَهُ له؟! فأشار : أن نَعَمْ، فصارتْ تمضغُه وتُعطيه له ليِّناً رطْباً ممزوجاً بريقها حتى فاضَتْ روحُه ورأسه على صَدْرِها. أليس مجْلَبةً لفَخْر المرأة أن تنتقِل رُوحُ أفضل الخلق طرّاً إلى بارئها من على صَدْرِ امرأة كرَّسَتْ حياتها لإسعَاد الرسول وتسليته عمّا يكابدُه من الأهْوال الجسام في سبيل تبليغ الدّعوة والهداية لكل الأنام؟!
هَلْ تَفْقَهُ نساؤنا سِرّ افتخار أمِّنا الصُّغْرى بقولها : والله ما فَاضَتْ روحُ رسول الله إلا بَيْن سَحَري ونَحْري؟! -أو كما قالت- أمْ أُصِبْن بالعَمَى الحدَاثي الذي غَاسَ في وحَلِ أطيان الدّنْيا فلم يعْرفْنَ كَيْف يخْرُجْن منه بسلام؟!
إن الإسلام جاءَ ليرفع أرواحَ الرجال والنساء إلى آفاق القِيَم والمعالي، فحَلَّقتْ في أجواءِ النُّبل والشهامة والمروءة والأخلاق حتى كادَتْ تُشبِه الملائكة الأبرار، وسمَتْ بالزَّهْدِ والتجردِ والإخلاص والتضحية بكل شيء في سبيل إرضاءِ ذي الجلال والإكرام، فكان جزاؤهم أن حكَّمهم الله تعالى في أقاصي البلاد وأدَانيها، ومنحهم كنوزَها وخيراتها، وأذَلَّ لهم طُغَاتَها وجَبَابِرتها، وأصبحت حضارتُهم سيّدة النظام العالمي الذي كان غارقاً في الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء. فماذا دها المرأة والرجل حتى فَرَّطا في موازين الدِّين وحكَّما موازين التراب في كُلِّ شيء؟!
تركا موازين الدين في :
1) تأسيس الأسر : التي قال الله تعالى فيها {ولَعبْدٌ مُومِنٌ خَيْرٌ من مُشْرِكٍ ولَوْ أعْجَبَكُم}، {ولأَمَةٌ مُومِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ ولوْ أعْجَبَتْكُم}(البقرة :219) فاختاروا الرجُلَ على أساسِ المال والوظيف والمنصب والجاه ولو في غيبة الدين، واختاروا المرأة على أساس الجمال والغنى والثرو ة والوظيف والحسب والنسب ولو في غيبة الدين فكانت النتيجة شقاءَ الرجل بالمرأة، وشقاء المرأة بالرجل، وشقاءَ الأولاد بالمرأة والرجل وشقاء الأقرباء والجيران بأخلاق السُّوءِ الفائحة من معاملات أصحاب الطبائع الشبيهة بالطبائع الحيوانية.
2) إسناد المسؤوليات : التي قال فيها الله تعالى : {إنّ خَيْرَ مَن اسْتأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ}(القصص : 26) فاختاروا المحاسيب والمناسيب لوظائف الدّولة في كل المرافق، وباعوا المناصب بأثمان باهظة، أو أعراض مذبوحة، فكانت النتيجة امْتِلاءَ دواليبَ الدّولة بالغشاشين والغشاشات والمُهدرين لأوقات المواطنين والمواطنات، والمهينين للكرامات، والمبدِّدين للطاقات بدون أسف أو تحسُّر أو تندُّم على ما يُسجَّلُ علينا أمامَ الله والناس والمجتمعات من التخلفات والتأخرات في كل الميادين والمجالات.
3) إسناد القيادات العليا في البلاد : التي قال الله تعالى فيها : {اجْعَلنِي علَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(يوسف : 55). فاختاروا صاحب المال الذي لا دين له، وصاحب الحزب الذي لا ضمير له، وصاحب العسكر الذي لا سياسة له، فكانت النتيجة أن سيقت الشعوب كما تساق القطعان، تسمع وتطيع كالصُّم والبُكم والعُميان.
من هذا التفريط في الموازين الربانية كانت :
>1) الأميّة الفكريّة : التي جعلت أكثرية الأمة تعيش في القرن الواحد والعشرين بجاهلية أقبح وأبشع من جاهلية ما قبل قرون الإسلام.
2) السقوط في خطاب التصارع بين الذكر والأنثى على أساس المغالبة المادية واستبطان كُلٍّ منهما حُبّ الاستغلال للآخر إلى أبْعَدِ الحُدود، فسادَتْ الذَّكورة بدون رجولة والأنوثة بدون تبعُّل.
3) الاضطرابُ في فهْم الحقوق والواجبات فلا الرجُل رجُلٌ بسعة عقله، وقوة فكره وخُلُقه، وسخاوة جَيْبه، وقوَاميّة هيْبته، ولا المرأة امرأة بحُسْنِ تأتِّيها، وحُسن إدْراكِها، وجمال أُنْسِها، وكمال أدَبِها في المخبَر والمظهر فأصبح البيْتُ كأنه حلبَة للمصارعة والمبارزة، وليس مقرَّ المساكنة والمطامنة.
4) اعتبار مدونة الأسْرة محَطُّ الرحال ونهاية الآمال : كأن المدونة بلْسَمُ الشفاء للعوانس، وللأمهات العازبات، وللمطلقات العاهرات، وللأرامِل الجائعات والمتسولات، وللسكرتيرات السارقات للذكور من أحضان الزوجات الغافلات، وللراقصات بائعات اللحم الرخيص والعقل الخسيس، وكأنها بلسم الشفاء للرجل الذي تهجُره المرأة في الفراش، وتُغلق عليه الباب وتقول له: النساء في الشوارع والمواخير كثيرات، وكأنها بلسم الشفاء للرجل الذي تتحايَل المرأة على جيْبه وحسابه ورصيده لتجعله صُعلوكاً فقيراً تستلِذ بخضوعه واستجدائه.. إلى غير ذلك من المآسي التي أفْرزها الجَهْل بالإسلام، والتي أتَى بها الإقبالُ على ثقافة الحداثة الناهِلة من الأحْواضِ الآسنة المتعفنة بالفهم الأعوج للدين وللحياة.
إن المدوّنة ليست هي العلاج الشامل للمشاكل ولكنها جُزْءٌ بسيط من الحلول لما أفرزه المجتمع من مشاكل نتيجة الجَهْل بالدين، ونتيجة عدم الانضباط بموازين الدين، ونتيجة استهانتنا بالدين، ونتيجة انبهارنا بحضارة المطلِّقين للدين، فليس للمدوَّنة ربٌّ يسمع ويبصر، ويضر وينفع، ويثيب ويعاقب، ويحاسب على النقير والقطمير، ويسمع بالليل الشكوى والنجوى، ولكن للدين رب يقول : {إنّ المُسلمين والمُسلماتِ والمُومِنين والمُومِنات والقانِتِين والقانِتاتِ والصّادِقِين والصّادِقاتِ والصّابِرِين والصّابِرات والخَاشِعِين والخَاشِعاتِ والمُتَصدِّقِين والمُتصدِّقات والصائِمِين والصّائِمات والحافظِين فروجهم والحافظاتِ والذّاكِرين الله كثِيراً والذّاكِراتِ أعدّ الله لَهُم مغْفِرَةً وأجْراً عَظِيماً}الأحزاب : 35).
فمتى تشرق على نسائنا سعادة شمس الإسلام، ويغيب عنهن بؤس الاعوجاج الحداثي الذي بخر الأرواح والأجسام؟!.