النداء في اللغة الدعاء بأي لفظ كان، يطلق على المكان كما يطلق على الصوت، عبر عن المكان بالنداء في القرآن الكريم مرات، كقوله تعالى : {فليدع ناديه}العلق : 17) فالنادي هنا هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي يجتمعون. روي أن أبا جهل مر برسول الله وهو يصلي، فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله ، فقال : أتهددني، وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟(1). ومنه سميت دار الندوة بمكة التي بناها قصي، وهو المكان الذي كانوا يجتمعون فيه، والندوة الجماعة، ودار الندوة : دار الجماعة، سميت من النادي، كانوا إذا حز بهم أمر غدوا إليها فاجتمعوا للتشاور.
ومن هذا قوله تعالى : {وتاتون في ناديكم المنكر}(العنكبوث : 29) فالنادي هنا مجلس قوم لوط لإذايتهم الناس بأقوالهم وأفعالهم(2)، ومن هذا قوله عز وجل : {قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا}(مريم 73) فالنادي هنا المكان والمنزلة، والمجلس يجتمع فيه القوم.
كما ورد بهذا المعنى في الحديث النبوي الشريف، قال : >واجعلني في النداء الأعلى<(3) أراد نداء أهل الجنة أهل النار في قوله تعالى : {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا}(الأعراف : 44).
وورد النداء بمعنى الصوت، وأصل النداء من الندى، أي الرطوبة، يقال : صوت ندي رفيع، واستعير لفظ النداء للصوت من حيث أن من تكثر رطوبة فمه يحسن كلامه، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق(4)، والنداء بمعنى رفع الصوت وظهوره كثير في القرآن الكريم، ورد بالفعل (نادى) وبالحرف يقال : أندى الرجل إذا حسن صوته، وتنادوا أي : نادى بعضهم بعضا، وفي حديث الدعاء : (ثنتان لا تردان عند النداء وعند البأس، أي عند الأذان للصلاة، وعند القتال)(5)، وفي حديث الأذان فإنه كان أندى صوتا أي أرفع وأعلى، وقيل : أحسن وأعذب، وقيل : أبعد(6).
والصوت الجهوري محمود في كثير من المواطن، خاصة في الحرب، فقد كان العباس بن عبد المطلب أجهر الناس صوتا، ولذلك قال رسول الله لما انهزم الناس يوم حنين : يا عباس اصرخ في الناس(7).
وأما النداء في الاصطلاح فهو طلب إقبال المدعو على الداعي وقد يصحب في الأكثر الأمر والنهي، والغالب تقدمه(8) نحو : {يا أيها الناس اعبدوا ربكم}(البقرة : 21) وقوله تعالى : {يا عباد فاتقون}(الزمر : 16) وقد يصحب الجملة الخبرية فتعقبها جملة الأمر، كقوله تعالى : {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له}(الحج : 73) وقد تصحبه الجملة الاستفهامية، كقوله تعالى : {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر}(مريم : 42) وطلب الإقبال يكون حسا أو معنى بحرف ينوب مناب أدعو، سواء أكان ذلك الحرف ملفوظا (يازيد) أو مقدرا كـ{يوسف أعرض عن هذا}(يوسف).
وأدوات النداء ستة هي : الهمزة، أي، يا، أيا، هيا، وا، تستعمل يا أيا هيا عند مد الصوت للمتراخي، أو الإنسان المعرض، أو النائم، وتستعمل أي والهمزة للقريب، لأن البعيد يفتقر في دعائه إلى رفع الصوت ومده، وهذه الأحرف الثلاثة يا أيا هيا أواخر هن ألفات، والألف ملازمة للمد، فاستعملت في دعاء البعيد، لإمكان امتداد الصوت ورفعه بها فـ (يا) لتنبيه المنادى، وهي أم الباب، ينادى بها البعيد مسافة وحكما، وقد ينادى بها القريب توكيداً، إذا كان ساهيا، أو غافلا، أو لنكت أخرى، منها :
1- الحرص على إقبال المدعو والرغبة والرضى بذلك، فصار إقباله كالبعيد، لأن النفس إذا اشتد حرصها على الشيء صارت كل ساعة قبل في غاية البعد، فتقول : يا غلام بادر بالماء فأنا عطشان، ومن ذلك قوله تعالى : {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}(القصص : 31) فموسى عليه السلام ليس بعيدا من الذات العلية.
2- كون الخطاب المتلو معتنى به، نحو : {يا أيها الناس اعبدوا ربكم}(البقرة : 21).
3- التنبيه على عظم أمر المدعو إليه، وعلو شأنه، كأن المنادي مقصر في أمره، غافل عنه، مع شدة حرصه على الامتثال، نحو : {يا أيها الرسول بلغ}(المائدة : 76) ومن هذا قول الداعي : يا الله، يارب اغفر لي، مع أن الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
4- التنبيه على بلادة المنادى، وانحطاط شأنه، كأنه بعيد عن مجلس الحضور، نحو : من أنت يا هذا؟ ومثل هذا ما ذهب إليه فرعون لعنه الله، إذ قال : {إني أظنك يا موسى مسحورا}(الإسراء : 101).
والنداء في القرآن الكريم ورد بلفظ (يا) دون غيرها من الأدوات الأخرى، والآيات التي تحتوي على نداء في القرآن الكريم تصل إلى نحو 479 آلية(9) والياء لنداء البعيد حقيقة أو حكما، وهي أكثر حروف النداء استعمالا، ولهذا لا يقدر عند الحذف سواء نحو {رب اغفر لي} أو {يوسف أعرض عن هذا}.
والنداء يقوم بدور جمالي في القول، وهو أسلوب من أساليب الكلام العربي، ودعوة موجهة من المنادي إلى المنادى، وترتبط بالجوانب النفسية للجانبين، ووجوه النداء البلاغية تتصل بهذه الدعوة، وتؤدي دورا بارعا في التعبير، نجمل ذلك في الآتي :
1- فيه إقامة علاقة مع الآخر.
2- فيه حق على الاهتمام بموضوع الكلام.
3- فيه توجيه الأنظار إلى المنادى وتركيز الاهتمام حوله.
4- فيه الإيجاز والاختصار.
5- يبعث الاطمئنان في نفس السامع، ويقوي الحاجة إلى التفكير(10).
والنداء في القرآن الكريم يوجه إلى العام والخاص وإلى جميع أصناف خلقه من جن وإنس وأرض وسماء.
—–
1- الكشاف 272/4.
2- معترك الأقران في إعجاز القرآن : 550/2.
3- النهاية في غريب الحديث : 37/5.
4- معجم مفردات ألفاظ القرآن ندا.
5- النهاية في غريب الحيديث ندا.
6- نفسه.
7- الكامل في اللغة والأب : 165/2.
8- الإتقان في علوم القرآن : 246/3.
9- النداى في اللغة والقرآن ص : 479.
10- نفسه ص : 120.
د.محمد الأمين