إن كان إيماننا بالله تامّاً فلابد أن يكون الأمل والعزم شعارنا، وتقديم الخدمة للأمة مهمتنا. يجب أن يكون توقيرنا للحق تعالى وأن ننذر أنفسنا لإسعاد الآخرين بدرجة أن نفضل أن نُطْعِم قبل أن نَطعَم، وأن نكسو قبل أن نَكسي فيسعد من يرى أسلوب حياتنا الموقوفة للآخرين، وأمانتنا في أداء الأمانة. يجب أن نعيش طاهرين ونزيهين إلى درجة أن أي حرام أو أي أمر غير مشروع لا يستطيع أن يلوث حتى أفق أحلامنا فضلاً عن حياتنا. ومن يدري كم فقدنا وكم خسرنا، وكم هبطنا من علونا جراء بعض هذه التلوثات. فلا يفلح قط من لا يوفي حق موقعه وينحرف عنه.
…علينا أن نربط قلوبنا بالهبات والأفضال الإلهية والسعي لنيل رضاه، واضعين سدّاً منيعاً أمام رغباتنا وأهوائنا الشخصية. نعطي -دون انتظار أي مقابل- ولا نأخذ، بل نحسن على الدوام. وعندما ننطلق نحو “المحبوب” ونسلك سبيل السعداءلا تخطر أنفسنا على بالنا.
لقد اعتاد الذين نذروا أنفسهم لسلوك طريق السعداء -في الماضي والحاضر- ألاّ يطالهم اليأس والقنوط وألاّ يهتزوا ولا تأخذهم الحدة والغضب حتى وإن تعرضوا من كل جانب لمشاعر العداء والكره، وإن قاسوا من جحود الأصدقاء وشماتة الأعداء، وإن أصبحوا هدفاً لهجوم أصحاب الأرواح المملوءة حقداً ونفوراً، ولا يقابلون هذا بشعور مقابل من العداء والكره، بل يدفعون السيئة بالحسنة وبالكلمة الطيبة وبسلوك الإحسان وبالقول اللين فيقومون بذلك بإصلاح جميع السلبيات، ويقابلون الأفكار الهدّامة بحملات البناء، ولو انقلب كل شيء في البلد -لا سمح الله- في يوم من الأيام رأساً على عقب، وانغمرت الجماهير في الظلام، وتقطعت الطرق وتهدمت الجسور فلن يضطرب هؤلاء ولن يهتزوا، لأنهم يرون أن هذا الاضطراب والاهتزاز منهم يعد عدم توقير لعقيدتهم ولإرادتهم. لذا فبدلاً من إظهار دلائل ومناظر الموت والخراب في جو من اليأس والقنوط يقومون بتحفيز مشاعر الحياة عند الآخرين وتنشيطها وإثارتها، ويهتفون لكل من يستطيع السير أَنْ الطريق مفتوح.
إنني أعتقد بأن يد العناية ستمتد حتماً إلى أبطال العزم والعزيمة هؤلاء إن لم يكن اليوم فغداً، وأن العواصف الهوجاء التي تقطع عليهم الطريق ستهدأ وتسكن، وستذوب الثلوج وتزول، وستتحول السهول والوديان القاحلة حولهم منذ قرون إلى جنان نضرة، وسيبتسم لهم الحظ.
اليأس عفريت يقطع عليك الطريق، وفكرة العجز وانعدامِ الحيلة مرض قاتل للروح، والذين برزوا في تاريخنا المجيد برزوا لأنهم ساروا بكل عزم وإيمان. أما الذين تركوا أنفسهم لمشاعر العجز والقنوط فلم يقطعوا أرضاً، ولا ساروا مسافة، بل ضاعوا في الطريق، فمن ماتت عندهم المشاعر والأحاسيس، ومن فقدوا قابلية الحركة لن يقطعوا طريقاً، والنائمون لا يستطيعون الوصول إلى الهدف. أما الذين فقدوا عزمهم وإرادتهم فلن يستطيعوا البقاء قطعاً على أرجلهم مدة طويلة.
والآن إن كنا نفكر في غدنا، ونأمل في الوصول إلى المستقبل ونحن ننبض بالحركة والحياة، فعلينا ألا ننسى أبداً بأن الطرق تُقطع بالسير، وأن الذرى تبلغ بالعزم والإرادة والتخطيط. إن الذرى التي تبدو مستحيلة الوصول، قد تم الوصول إليها مراراً. وَقَبَّلت القمم الشاهقة أقدامَ العزم والإرادة وأنارت في أصحابها عزماً جديداً. والحقيقة إن من عرف طريقه في أي عهد من العهود وعرف الهدف الذي يتوجه إليه، وكان واثقاً من القوة التي يستند إليها استطاع بفضل هذا الشعور وبفضل هذه الديناميكية التي يشعر بها في أعماقه أن يرقى إلى هذه الذرى ويتجاوزها فيصل الشاهقة مرات ومرات، وتصغر الأرض تحت أقدامهم، وتفتح السماوات صدرها لعرفانهم، وتقف لهم المسافاتُ تحيةً وإكباراً وتقف لعزمهم وجهودهم احتراماً، وتتحول العوائق والموانع إلى جسور تنقلهم إلى أهدافهم… أجل!.. إن الظلام يندحر دائماً أمام هؤلاء الشجعان، وتنقلب المصائب إلى شآبيب رحمة وتتحول المشقات إلى طرق نجاة، والضوائق إلى حوافز انطلاق.
لو أبادوا حاضر مثل هذا الشخص نراه ييمم وجهه نحو المستقبل ويستمر في طريقه المتوجه إلى الغد. ولو هدموا مستقبله أيضاً لما تردد في نخس جواده نحو مستقبل أبعد. أي لا يملكون حيلة حيال أمثاله، ولم يستطيعوا هذا حتى الآن. لأن حتى لو عاش هزائم، أو سقط على الأرض، فإنه بفضل عزمه وإيمانه وأمله يستمر في وضع خطط جديدة للفوز وللنجاح ويجد فيها السلوى والعزاء. كما أنه عندما يجابه بموجات من الحقد والعداء، وعندما تدلهم أمامه الخطوب، وتتكاثف الظلمات بعضها فوق بعض لا يسقط في وديان اليأس والقنوط، ولا يضطرب أو تهتز منه شعرة. لأنه لا يمثل الأمس فقط ولا اليوم ولا الغد، بل هو في موقع يسري كلامه إلى الأزمنة جميعا فهو “صاحب الوقت” و “ابن الزمان”(1). يعرف إضافة إلى لغة عصره روح الدين وأسرار القرآن. كل من يراه ويستشعره يتذكر عصر النبوة والراشدين، وهو بمشاعره وأفكاره وبعفته ونزاهته وبوفائه… بصدقه وخلقه المتين يبدو كأنه صرح من الجلمود أو الجرانيت، إن تهدم كل من حوله وانهار، فلا يتفتت ولا يسقط منه مقدار قلامة ظفر واحدة.
نحن نأمل -بفضل هذه الأخلاق العالية والقوية والراسخة- أن تجد الصدور التي تشتكي الغربة والهجران الشفاء والسلوان إن لم يكن اليوم فغداً، وأن يعدل الذين عاشوا منحني الظهر منذ عصور ظهورهم، ويهتفوا مؤكدين وجودهم، وأن تحيا الأرواح التي هزمها الظلام وتقوم بتبديد وطرد الظلمات التي تحيط بهم وتحاصرهم، وأن يصرف الجميع جهوداً استثنائية ويقوموا -تحت إرشاد المعاني المركوزة في جذورهم وأعماق نفوسهم- بتجاوز جميع العقبات فيتحدون مع ذواتهم وماهيتهم ويصلون إلى ذروة الحظ والسعادة.
——-
1- لتعبير “صاحب الوقت” و “ابن الزمان” معانٍ خاصة في التصوف. أما هنا فان “ابن الزمان” يعني ابن العهد الذي يعيش فيه، “وصاحب الوقت” يعني حاكم عهده
محمد فتح الله كولن