الأدب الإسلامي واصل لحاضر المغرب بماضيه
أمام هذا الاجتياح، أوالهجوم الشرس من لدن هؤلاء (الاستشراقويين) وهم في الواقع كانوا في غنى عن ذلك، لأن مواهبهم الأدبية، وطاقاتهم الإبداعية، كانت تؤهلهم للشهرة ولا شك ـ على الإسلام وقيمه ومقدساته والذي اشتد في بلادنا إبان السبعينيات وأوائل الثمانينيات مـن القرن الماضي، ولا يزال الأمر على حاله مع كثير من أتباعهم ومريديهم، كان لابد أن تهتز الضمائر وتتحرك المشاعر للرد والمواجهة، وتقويم المعوجِّ، ولوصل الحاضر المغربي بماضيه الإسلامي المشرق، فظهر التيار الإسلامي في الأدب شعرا ونثرا، ليقود جبهته، ويحفر أنهاره داخل الجسد الثقافي في بلادنا، يقول الدكتور حسن الأمراني وهويختصر مكونات المشهد الثقافي في بلادنا : إن ثقافتنا المعاصرة تقوم على مجموعة من الأسس أهمها ثلاثة :
1 ) الاستهتار بالقيم والمقدسات الإسلامية.
2 ) بث قيم اليأس والقنوط وتمجيد مظاهر الانحراف.
3 ) الاستلاب الثقافي عن طريق تشويه الذات وممارسة نوع من التعذيب السادي إرضاء للغرب. (17).
لهذا كانت أولى خطوات رواد التيار الإسلامي عبر ما نشروه من مقالات، وما أبدعوه شعرا ونثرا ـ مع تركيز لافت على الإبداع الشعري ـ تهدف إلى إعادة التوازن إلى وعي المتلقي والمثقف المغربيين معا، من خلال تبصيره بنواة أزمة الثقافة المغربية المتمثلة في غياب النظرة الشمولية وسيادة النظرة الجزئية، أي أن المثقف عندنا عاجز عن التسامي إلى إدراك التصور الشمولي المنسجم المتناغم الواصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بل هوعاجز ـ حتى في حياته الدنيا عن أن يكتسب نظرة شمولية للحياة، فنراه يحاول تفسير الأحداث والوقائع اعتمادا على الجانب الاجتماعي أوالاقتصادي أوالنفسي أواللغوي أحيانا، دون أن يرقى إلى إدراك الآثار السلبية أوالإيجابية التي يمكن أن تحدثها هذه العوامل جميعا أوأشتاتا، وهذا القصور في التوفيق بين العناصر المختلفة هـوالذي أفضى إلى تمزق المثقف بين الثقافات الوافدة، وهي بطبيعتها ثقافات متعددة ومتنوعة، ولكنها أيضا متباينة بل ومتناقضة في كثير من الأحيان، وهذا التمزق ناجم أصلا عن عدم وجود قاعدة ثقافية ذاتية حصينة تمكن من الفهم العميق لمفهوم تعايش الثقافات كما يسميها مالك بن نبي، أوحوار الحضارات بتعبير روجي جارودي(18).
فإذا كان الجانب الآخر الذي يعتمد في العمق على الحداثة، يقصي الغيب مـن المشهد الثقافي المغربي، فإن التيار الإسلامي يستحضره، ويجعله نواة للانطلاق، إذ هوالقطب وعليه المدار، فيجعل الشهادة سابحة في ظله، عنه تصدر وإليه تؤوب، من هنا جاء الإلحاح على شعار (الثقافة المسؤولة الواعية)، إذ إن الشعور بالمسؤولية يزيدك إحساسا بالحرية، ويعمق في ذاتك أسرارها ليجعلها تسري في أعماق الوجدان، ولكنه في الوقت ذاته يجعلك رقيبا على حريتك، إنها باختصار ثقافة ملتزمة بطبيعتها، ولكن الالتزام فيها نابع من شعور داخلي عميق مرتبط بالحقيقة الكبرى، وهي أن الله عز وجل رقيب حسيب وليست هناك سلطة خارجية تسلط السيف على الرقاب أوتحصي أنفاس الناس سواء أكانت سلطة أدبية أم سلطة سياسية(19)، وبالجملة فإن الثقافة في مفهوم التيار الإسلامي، هي ثقافة ساعية إلى (خدمة الإنسان وتكريمه بالصورة المثلى عن طريق إنماء نوازع الخير فيه، فهي لا تصور لحظات الإحباط والارتكاس تصويرا يجعلها حتمية كصخرة سيزيف، كما لا تسعى إلى إلغاء وجود الفرد الحق بجعله عبدا لأهوائه ونوازعه وشهواته باسم التحرر، ولا إلى إلغاء وجوده عن طريق الذوبان والانسحاق داخـل المجموع باسم خدمة الجماعة ونكران الذات، إنها تنظر إلى الإنسان من حيث هوإنسان له كينونة تتعدد صورها وتتكامل ولا تتصارع، فلا ينبغي أن يطغى عنصر على حساب عنصر آخر)(20).
فمن هنا كانت البداية، وكانت صعبة جـدا لقلة الوسائل والإمكانات لإيصال هذا الخطاب إلى كل شرائح المجتمع وبخاصة وسائل النشر والتوزيع وتوابعها، ومع ذلك فقد كانت موفقة تبعتها خطوات وخطوات بعزم وثبات حتى اكتسب هذا التيار الإسلامي في الأدب مكانته داخل المشهد الثقافي المغربي رغم كل شيء وهولما يتجاوز بعدُ إلى الآن العقدين والنصف من الزمن على بزوغه على الساحة الثقافية الوطنية، وهي مكانة بارزة ولاشك برغم العواصف التي! تأتيه من كل جانب ولا تكاد تزحزحه عن مكانه، لأنه أصل ثابت في نفوس المغاربة، ولهم به عهد طويل لأنه ليس بجديد ولا هوبنزوة وافدة ضمن ما وفد على الثقافة المغربية منذ الستينيات إلى اليوم، وإنما هوتيار يعيد تأصيل الأصول وتجديد الرواسم التي سعى الساعون إلى محوها وإعفائها. وهذا في اعتقادي هوالمبرر الوحيد الذي جعل للتصور الإسلامي أثرا طيبا في الثقافة المغربية المعاصرة عموما، وفي الإبداع الأدبي على وجه خاص، لاسيما وأن كل التجارب الفكرية والسياسية شرقيِّها وغربيِّها قد فشلت فشلا ذريعا في إلحاق العالم الإسلامي المتخلف بالركب الحضاري الغربي المتحضر.
ثقافة تستمد أصولها من التراث
لهذا كان السعي إلى ثقافة بديلة تستمد أصولها من التراث الذي رأى فيه قادة التيار الإسلامي مخزونا ثقافيا هائلا، يستوجب إعادة النظر فيه من الداخل، بأن يُدْرس ويُنْخَل ويُغَرْبَلَ ويُصَفَّى بعين إسلامية معاصرة متبصرة، تأخذ بمواطن القوة فيه، بقدر ما تدع مواطن الغثاثة والضعف منه، وفق كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكانت نتيجة هذا كله ، قَدْرٌ صالح مـن الدراسات والبحوث والإبداع في شتى أنواع الأدب شعرِه ونثرِه، تطالع المثقف المغربي باستمرار،ناهيك عن الدائرة الأكاديمية التي قال عنها الدكتور عماد الدين خليل : فلقد تحقق للمغاربة سبقٌ عجيبٌ يعد ـ ولا ريب ـ إضافة قَيِّمة لحركة الأدب الإسلامي المعاصر، إن أَرْوِقة الجـامعات وقاعاتها ومنتدياتها تشهد حضورا متزايدا لهذا الأدب في المحاضرة!، في الندوة، في المؤتمر، وفي مجال آخر لا يقل أهمية عن هذا كله : الرسالة الجامعية والأطروحة، حيث تمكن الأدباء الإسلاميون أساتذة وطلبة مـن شق الطريق أمام هذا الأدب الوليد، وإقناع الأكاديميين الذين لم يكن الكثيرون منهم يعلمون أويعتقدون بوجود أدب إسلامي، بضرورة إعطاء مساحة منـاسبة لهذا الأدب مـن خلال مناقشة ودراسة قضايا ه الأساسية في رسائل وأطروحات الليسانس، والماجستير، والدكتوراه(21).
فوجود التيار الإسلامي على الساحة الثقافية أمر تستدعيه الضرورة ولا شك، ويمليه راهن الثقافة المغربية ذاته، حتى يخلق ذلك التوازنالذي يحدُّ من النظرة الأحادية إلى المجتمع والناس والحياة بوجه عام.
صحيح أن الإمكانات لا تزال محدودة، من نشر وتوزيع كما سبق القول، ومع ذلك فإن الصوت الإسلامي في مختلف مجالات الإبداع، شعرا ونثراً، لا يزداد إلا رسوخا مع توالي الأيام، يِإِبْداع ملتزم يصل شهادة الإنسان بغيبه في جو أثيري خلابٍ وهويتتبع بإصرار وهدوءٍ الكلمةَ الطيبةَ، والحكمة البليغة أينما وجدت، لأنه يؤمن بأنه أحق الناس بها، لا يهمُّه بأي لغة نطقت، ولا من أي قلب انبجست، ما دامت تتوافق مع الفطرة التي هي إكسير القِيَم الإنسانية الذي تَوَلَّدَ عليه أول ما تولد، قبل أن تتلطخ بسيل جارف من الأهواء، يأتي بها موج السقم من كل مكان.
بهذا فإن التصور الإسلامي اليوم في المشهد الثقافي المغربي قد حفر فعلا نهره من جديد، ليصل ينابيعه بالينابيع الصافية الأولى، ويواصل تدفقه صَيِّباً قويا لا يلوي على شيء، جارفا كل غثاء، يجتثه من فوق الأرض مع الزبد الجفاء ما له من قرار : {وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(الأنفال : 7- 8).
————
( 17) ـ راجع مقالامطولا للدكتور حسن الأمراني تحت عنوان ( ثقافتنا المعاصرة بين الكائن والممكن ) في مجلة : (المشكاة العدد :14، وقد استفدت كثيرا من مقالاته في أعداد مختلفة من هذه المجلة الرائدة.
( 18 ) ـ بل هي فتنة، مقال .د: حسن الأمراني، المشكاة، عدد : 1.
( 19 ) ـ نحوثقافة بانية : الخصائص. د. حسن الأمراني، المشكاة، عدد مزدوج : 5 ـ 6.
( 20 ) ـ المقال نفسه، من العدد ذاته.
( 21 ) ـ نماذج من إسلامية الأدب المغربي، مقال للدكتور عماد الدين خليل في مجلة المشكاة، عدد 10.
د.بنعيسى بويوزان