كثر النداء في القرآن الكريم، خاصة بالحرف (يا) فنودي الأنبياء والأقوام والأبناء والآباء قبل بعثة الرسول ، وعند مبعثه ، جاء نداء المشركين في القرآن المكي بصيغة {ياأيها الناس} في نحو ثمانية عشر موضعا، وبلفظ {ياأيها الإنسان} في موضعين، وهو نداء لكافة الناس، نداء الناس كلهم لعبادة ربهم، وهو نداء عام يراد به الخاص، فلا يشمل الأطفال والمجانين(1)، والمراد بالناس جنس الناس، لا كل فرد، وهذا يغلب في خطاب أهل مكة، وحكمة ذلك أن يأتي بعد هذه الصيغة الأمر بأصل الإيمان، وفي القرآن الكريم سورتان أولهما {ياأيها الناس} إحداهما في النصف الأول، وهي سورة النساء، والثانية في النصف الثاني منه، وهي سورة الحج(2)، وهما مدنيتان(3).
والإنسان يطلق على الذكر والأنثى، وعلى أفراد الجنس البشري، ومن أساليب القرآن الكريم أنه إذا كان المقام مقام التعبير عنالمفرد يذكر الإنسان، وإذا كان مقام التعبير عن الجمع يذكر الناس، مثال ذلك قوله تعالى: {كل إنسان ألزمناه طائره}(الإسراء :13) ومثال الثاني قوله عز وجل : {إن الله لـــذو فضل على الناس}(البقرة :243).
والإنسانية تدل على ما اختص به الإنسان من الصفات، وأكثر استعمال هذا اللفظ في اللغة العربية، إنما هو للمحامد، نحو الجود والكرم ونحوهما(4). يقول الراغب الأصبهاني: ( والناس قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا.وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية، وهو وجود الفضل والذكر وسائر الأخلاق الحميدة، والمعاني المختصة به(5) و، فقول الله تعالى : {أم يحسدون الناس}(النساء: 54) وقوله : {آمنوا كما آمن الناس}( البقرة : 13) أي كما يفعل من وجد فيه معنى الإنسانية، فالناس في الآيتين هم الكاملون في الإنسانية، وهم المومنون؛ لأنهم هم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم(6).
كان عمل النبي في مكة هو إيجاد الشخصية المومنة، لذلك كان الخطاب في القرآن المكي ب{ياأيها الناس} ولما وجدت الشخصية المومنة بعد تربية دا مت سنوات، وأصبحت مؤهلة للخطاب الخاص بها، نودي أهل المدينة ب{ياأيها الذين آمنوا} وهو خطاب مدح وتشريف لهم ؛لأنهم آ منوا وهاجروا تمييزا لهم عن أهل مكة، وقعت هذه الصيغة في القرآن الكريم في نحو ثمانية وثمانين موضعا، فالله تبارك وتعالى جمع أوصاف المومنين ونعوتهم ومعانيهم في هذا النداء؛ لأ نه لم تبق حسنة إلا دخلت تحته(7).
افتتحت ثلاث سور من القرآن الكريم ب{ياأيها الذين آمنوا} هي المائدة، ورد فيها النداء بهذه الصيغة ست عشرة مرة، وورد في الحجرات خمس مرات، وفي الممتحنة ثلاث مرات، وهذه السور كلها مدنية، أخرج ابن أبي حاتم عن خيثمة :ما تقرأ ون {ياأيها الذين آمنوا} فإنه في التوراة (ياأيها المساكين) قال ابن عباس : وكان الله يخاطب في التوراة بقوله: (ياأيها المساكين) فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولا بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخرا(8)، حيث قـــال : {ضربت عليهم الذلة والمسكنة}(البقرة :61) .وأخرج البيهقي وأبو عبيد وغيرهما أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود، فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول : {ياأيها الذين آمنوا} فأوعها سمعك، فإنه خبر يأمر به أو شر ينهى عنه(9).وعند التأمل نرى أن ما بعد النداء، أكثره من الأوامر، وما بعده من النواهي فقليل.
والحكمة في نداء المومنين بلفظ الإيمان أنه يأتي بعد {ياأيها الذين آمنوا} الأمر بتفصيل الشريعة، وإن جاء بعدها الأمر بالإيمان كان من قبيل الأمر بالاستصحاب، وانتهاء المناهي أفضل من ائتما ر الأوامر، وفي نداء الله تعالى عباده بالإيمان من اللطائف ما لا يحيط بها إلا هو، كأنه سبحانه يقول: يامن أقررتم بوحدانيتي، وعرفتم ديمومتي، لا تقنطوا من رحمتي(10).
والله تبارك وتعالى كرم هذه الأمة بكثير من الصفات، نذكر منها ما يلي:
1- اشتق اسم الإيمان من اسمه عز وجل، فاسم ( المومن) من أشرف الأسماء والصفات، وهو صفة من صفاته عز وجل، ومعناه واهب الأمن، والخطاب ب {ياأيها الذين آمنوا} يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولا، فإنه يعطيهم الأمان من عذاب النار يوم القيامة.
2- يعود تكريم هذه الأمة إلى نسبها، فقد نسبها الله عز وجل إلى آدم في قوله عز وجل: {يابني آدم}(الأعراف : 26) والشريعة إلى نوح في قوله تعالى : {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا}(الشورى : 13) وبالملة إلى إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {ملة إبراهيم حنيفا}( آل عمران : 95) وبالأمة إلى محمد ، وبالعبودية إلى نفسه(11).
3- خطاب هذه الأمة بلفظ الإيمان فيه تشريف وتكريم، ففي قوله (ياأيها) تأكيد ومبالغة؛لأن النداء ب (يا) فيه تأكيد وتنبيه، و(ها) فيها التنبيه، و(أي) فيها التدرج من الإبهام إلى التوضيح.
والمقام يناسب المبالغة والتأكيد؛ لأن كل ما نادى به عباده من أوامره ونواهيه وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية وغير ذلك، ومما أنطق الله به كتابه أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان واجب عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم غافلون، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكدالأبلغ(12).
4- التعبير بلفظ الماضي ( آمنوا) دون (المومنون) أو (يومنون) هذه الصيغة فيها تأكيد الإيمان وإدخال السرور على المخاطب، ويكون هذا في مقام الدعاء بصيغة ( )، وتفيد التقرير وتحقيق الوقوع(13).
5- إ ن خطاب هذه الأمة بلفظ الإيمان فيه تشريف وتكريم، حيث خاطبهم الله تعالى بلفظ الإيمان، وأما نداءات غير المومنين فمختلفة، ففي خطاب أهل الكتاب يناديهم الله عز وجل بكتابهم وبالواسطة، في قوله تعالى: {قلياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}(المائدة : 68) ففي هذا النداء إهانة وتوبيخ لبني إسرائيل، يدل عليه قوله تعالى: {لستم على شيء} أي على دين يعتد به، حتى تقيموا التوراة والإنجيل، ومن إقامتها الإيمان بمحمد (14).
6- من ثمار التكريم أن الله تعالى جعل الإيمان حلية وزينة، ينتقل من الآباء إلى الأبناء، فمن فضل الله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المومنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، يقول الله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء}(الطور 21).
7- إن التعبير بلفظ : {ياأيها الذين آمنوا} تشريف لهذه الأمة، غير أن التدبر في كلام الله تعالى يفيد أن هذه الصيغة يراد بها في كلامه تعالى من هم دونهم، فقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المومنون}(النور 31) قيل فيه: يرد الخطاب باعتبار الظاهر عند المخاطب، وهم المنافقون، فإنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان، كما قال سبحانه: {قالوا آمنا بأفواههم ولم تومن قلوبهم}(المائدة 41) وجوز الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {ياأيها الذين آ منوا إذا ناجيتم الرسول}( المجادلة 9) أن يكون خطابا للمنافقين الذين أمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون خطابا للمومنين(15)وقال سيد قطب في تفسير هذه الآية: ويبدو أن بعضاً ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي، كانوا يتجمعون عند ما تحزب الأمور، ليتناجوا فيما بينهم، ويتشاوروا بعيدا عن قيادتهم الأم التي لاتقر ه طبيعة الجماعة الإسلامية، فيناديهم بصفتهم التي تربطهم به، وتجعل للنداء وقعه وتأثيره، لينهاهم عن التناجي، ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المومنون، وهي التناجي بالبر والتقوى(16).
————
1 – الإتقان في علوم القرآ ن 3/99
2 - البرهان في علوم القرآن 2/227- 4/53
3 - البرهان في علوم القرآ ن 1/ 194
4 – المعجم الفلسفي 1/ 158
5 – معجم مفردات أ1لفاظ القرآن ( نوس)
6 – محاسن التأويل 1/ 49 والأساس في التفسير 1/ 71
7 – معترك الأقران في إعجاز القرآن 3/ 15
8 – التفسير الكبير 3/ 227
9 – الإتقان في علوم القرآن 3/ 15
10 – معترك الأقران في إعجاز القرآ ن 3/ 15
11 - معترك الأقران في إعجاز القرآ ن 3/ 17
12 - الإتقان في علوم القرآن 3 / 247والكشاف
13 - البرهان في علوم القرآ ن 3 / 372
14 – معترك الأقران في إعجاز القرآ ن 3-/ 376
15 - البرهان في علوم القرآن 2 / 229 والكشاف 4 / 74
16 – في ظلال القرآن 6 / 3510