يكاد الأستاذ فتح الله ينفرد من بين الدعاة بتوكيده على ضرورة الأدب والفن في رَفْدِ الدعوة، وبكونهما قادرين على النفاذ إلى وجدان الناس ومخاطبة قلوبهم ومشاعرهم، وتشكيل جماليات وجداناتهم، بحيث يتلقون فكر الدعوة هينا سهلا ينساب إلى دواخلهم من منافذ الروح والحس والشعور دون صعوبة أو عنت. فالأدب والفن في مفهومه الدعوي جانب مهم من جوانب أي تشكيل حضاري يمكن إنجازه في مستقبل قريب أو بعيد، فيقول:
“أقول عن الفن الإسلامي إنه يحتوي رحابا واسعة فريدة بتجربة التلوين في فلك التجريد. فهو إذ يؤكد على التوحيد، يتخذ موقفا بينا ضد التشبيه والتجسيم… يريد أن يصور بحرا في قطرة، وشمسا في ذرة وكتابا في كلمة”.
إن الذين يشعرون بأنهم فقدوا اتجاههم الصحيح في الحياة، يمتلكهم فزع مريع غامض ربما شلّ قواهم الجسمانية والفكرية. وفي كثير من الأحيان يشعرون بنكران شديد لأنفسهم. ولو حاولنا أن ننفذ بدعوتنا إلى أعماق أرواحهم لصادفتنا مصاعب عظيمة، وربما جانبنا النجاح. ولكن “الإيمان الفني” إذا صح التعبير أو “الأدب الإيماني” يمكنهما أن يساعدانا كثيرا على فتح أقفال هذه القلوب الحائرة. ومن هنا جاءت ضرورة فهم نظريات الشيخ في الأدب والفن الإسلاميين، والتي تعود في جذورها إلى فكر الأستاذ النورسي، فهو يقول:
“ذلك لأن الإيمان يوجِد روحا فنية مكينة في الأرواح المتفتحة على الجمال يدعو إلى العجب والانبهار. نعم إن الفنان المؤمن يصل إلى الماهية المجردة في منشور الوجود اللانهائي، ويرسم ألوان الأبدية بنقوش وخطوط عديدة على اللوحة بضربة فرشاة من غير تعب أو رهق… حتى إن الناظر يحسب نفسه أمام أنموذج مصغر للوجود في كل تأمل في اللوحة الفنية، فتأخذه نشوة مطالعة اللانهاية في المعطيات المحدودة”(1) إلى أن يقول:
“الفن الإسلامي حسب فهمنا ليس ثورة على الفن الذاتي أو الموضوعي أو إعلانا وتشهيرا للمهارات… بل صهرا لما يشاهَد ويستشعر من روح ومعنى بين الأشياء والحوادث… صهرا لها في بوتقة القلب والحس والشعور، والتعبير عنها بلغة القلب والحس والشعور… والإشارة – من ثم – على الدوام إلى الموجود الذي ليس كمثله شيء سبحانه، وفي مرونة تُشعِر بالحقيقة الواحدة الثابتة المطلوب فهمُها، ولكن ببعد جديد مختلِفٍ في كل نظرة وتطلع، مع إبراز الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة بخطوط سحرية في هذا الإطار وفيما يتجاوز كل إطار.”(2)
والأستاذ فتح الله – شأنه في ذلك شأن الأستاذ النورسي – يرى في العمل الفني أو الأدبي علاقة جدلية بين حرية الروح في انطلاقاتها، وبين سدود وقيود العالم المشهود. وإن شوقه الأبدي لمعرفة ذاته وموقعها من الكون والوجود ومن الله تعالى هو مبعث أعمال الإنسان الأدبية والفنية. إنه نوع من أنواع التفجر في العبقرية الروحية وانهمارِ ينابيعها في عمل إبداعي جمالي يأخذ بمجامع القلوب، ويشدها إلى الله لكي تزداد فهما وتتسع إدراكا.
وأيّ كلام يصوغه القلب لا يمكن أن ينغلق دونه أي قلب. ولأن الإنسان عنصر روحي فإن أي قلم يمتح من الروح لابد وأن يجد في الإنسان مكانا يستقر فيه. وهذا هو ما يسعى إليه كل صاحب دعوة.
وأخيراً أختم بحثي بكلمات للأستاذ فتح الله كولن يلخص فيها شخصية النورسي الفريدة حيث يقول:
“إن العبقري لا يَختار”، إن الداهية لا يقول هل أعملُ هذا أو ذاك، لأن العبقري يملك موهبة إلهية وقوة دافعة ذاتية يستطيع بها معرفة واستيعاب كل المشاكل الظاهرة والباطنة، الفردية والاجتماعية بصورة عفوية، ويتصدى بطاقة متعددة المواهب لحمل ما ينبغي حمله مهما كان ثقيلا ومعقدا بكل سهولة. فهو بهذه الأوصاف شخص خارق بطبيعته وفطرته. والذين درسوا شخصية بديع الزمان والكتب التي تركها وراءه يرون اجتماع جميع عناصر العبقرية وصفاتها فيه… اعتباراً من سنوات شبابه التي ألف فيها كتبه الأولى والتي تعد من أولى علامات عبقريته، ووصولاً إلى كتبه في مرحلة النضوج والتكامل والتي قضاها في المحاكم والسجون والمنفى(3).
رحم اللّه أستاذنا النورسي الذي أهدى إلينا ميراثا عظيما كرسائل النور، وأجزل مثوبته، ورفع مقامه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
———–
1- ونحن نبني حضارتنا، ص 66
2- المصدر نفسه، ص 66-67
3- ونحن نقيم صرح الروح، م. فتح الله كولن، ص 90
ذ.نوزاد شواص