أحَقُّ ما يَنْبَغِي أن يُصْرَف إِلَيْه سَهْمُ (فِي سَبِيل اللَّه)
أحق ما ينبغي أن يصرف إليه سهم (في سبيل الله) في عصرنا ما ذكره العلامة المصلح السيد رشيد رضا رحمه الله. حيث اقترح تأليف جمعية ممن بقي من أهل الدين والشرف من المسلمين، تنظم جمع الزكاة منهم، وتصرفها -قبل كل شيء- في مصالح المرتبطين بهذه الجمعية دون غيرهم. قال : ويجب أن يراعى في تنظيم هذه الجمعية : أن لسهم >سبيل الله< مصرفاً في السعي لاعادة حكم الإسلام. وهو أهم من الجهاد لحفظه -في حال وجوده- من عدوان الكفار، ومصرفاً في الدعوة إليه والدفاع عنه بالألسنة والأقلام إذا تعذر الدفاع عنه بالسيوف والأسِنَّة وأَلْسنة النيران<(تفسير المنار ج 10 ص 598 ط ثانية).
هذا الكلام البصير، يدل على فقه عميق، وفهم دقيق، للإسلام وللحياة جميعاً. ويجب على دعاة الإسلام أن يعضوا عليه بالنواجد، فهماً وتطبيقاً. فإن من البلاهة أن تؤخذ أموال المتدينين لتنفق على الملاحدة، والمتحللين، والعلمانيين.
أجل، إن أهم وأول ما يعتبر الآن >في سبيل الله< هو العمل الجاد، لاستئناف حياة إسلامية صحيحة، تطبق فيها أحكام الإسلام كله : عقائد ومفاهيم، وشعائر، وشرائع، وأخلاقاً وتقاليد.
ونعني بالعمل الجاد : العمل الجماعي المنظم الهادف، لتحقيق نظام الإسلام، وإقامة دولة الإسلام، وإعادة خلافة الإسلام، وأمة الإسلام، وحضارة الإسلام.
إن هذا المجال هو في الحقيقة أوجب وأولى ما ينبغي أن يصرف فيه الغيورون على الإسلام زكاة أموالهم وعامة تبرعاتهم، فإن أكثر المسلمين -للأسف- لم يفهموا بعد أهمية هذا المجال، وضرورة تأييده بالنفس والمال، ووجوب إيثاره بكل عون مستطاع. على حين لا تعدم سائر المصارف من يمد لها يد المساعدة من الزكاة وغير الزكاة.
صور متنوعة للجهاد الإسلامي في عصرنا
وإذا كنا قد اخترنا أن الجهاد الإسلامي لا ينحصر في الجانب المادي العسكري وحده، وأنه يتسع لأنواع أخرى من الجهاد، لعل المسلمين أكثر حاجة إليها اليوم من غيرها، فإننا نستطيع أن نضع عدة صور وأمثلة للجهاد الإسلامي المنشود في هذا العصر.
وقبل عرض هذه الصور والأمثلة أحب أن أوضح حقيقة لها أهميتها هنا.
هذه الحقيقة هي : أن عبء تجهيز الجيوش النظامية وتسليحها والانفاق عليها، قد كان -منذ فجر الإسلام- محمولاً على الخزانة العامة للدولة الإسلامية، لا على أموال الزكاة. فكان ينفق على الجيوش والسلاح والمقاتلة من أموال الفيء والخراج ونحوها. وإنما يصرف من الزكاة على بعض الأمور التكميلية، كالنفقة على المجاهدين المتطوعين ونحو ذلك.
وكذلك نرى ميزانية الجيوش والدفاع في عصرنا، فعبؤها يقع على كاهل الميزانية العامة، لأنها تتطلب نفقات هائلة تنوء بها حصيلة الزكاة. ولو أن الزكاة حملت مثل هذه النفقات لكانتجديرة أن تبتلع حصيلتها كلها ولا تكفي.
لهذا نرى أن توجيه هذا المصرف إلى الجهاد الثقافي والتربوي والاعلامي أولى في عصرنا بشرط أن يكون جهاداً إسلامياً خالصاً وإسلامياً صحيحاً، فلا يكون مشوباً بلوثات القومية والوطنية، ولا يكون إسلاماً مطعماً بعناصر غربية أو شرقية، يقصد بها خدمة مذهب أو نظام أو بلد أو طبقة أو شخص. فإن الإسلام كثيراً ما يتخذ عنواناً لمؤسسات وأوضاع هي في باطنها علمانية لا دينية، فلابدّ إذن أن يكون الإسلام هو الأساس والمصدر، وهو الغاية والوجهة، وهو القائد والموجه، حتى تستحق تلك المؤسسات شرف الانتساب إلى الله، ويعد العمل فيها ولها جهاداً في سبيل الله.
ونستطيع أن نضرب أمثلة شتى لكثير من الأعمال التي تحتاج إليها رسالة الإسلام في هذا العصر، وهي جديرة أن تعد بحق جهاداً في سبيل الله.
إن إنشاء مراكز للدعوة إلى الإسلام الصحيح، وتبليغ رسالته إلى غير المسلمين في كافة القارات، في هذا العالم الذي تتصارع فيه الأديان والمذاهب، جهاد في سبيل الله.
وإن إنشاء مراكز إسلامية واعية في داخل بلاد الإسلام نفسها، تحتضن الشباب المسلم، وتقوم على توجيهه الوجهة الإسلامية السليمة، وحمايته من الالحاد في العقيدة، والانحراف في الفكر، والانحلال في السلوك، وتعدّه لنصرة الإسلام، ومقاومة أعدائه، جهاد في سبيل الله.
وإن إنشاء صحيفة إسلامية خالصة، تقف في وجه الصحف الهدامة والمضللة، لتعلي كلمة الله، وتصدع بقولة الحق، وترد عن الإسلام أكاذيب المفترين، وشبهات المضللين، وتعلم هذا الدين لأهله خالياً من الزوائد، والشوائب، جهاد في سبيل الله.
وإن نشر كتاب إسلامي أصيل، يحسن عرض الإسلام، أو جانب منه، ويكشف عن مكنون جواهره، ويبرز جمال تعاليمه، ونصاعة حقائقه، كما يفضح أباطيل خصومه، وتعميم مثل هذا الكتاب على نطاق واسع جهاد في سبيل الله.
وإن تفريغ رجال أقوياء أمناء مخلصين، للعمل في المجالات السابقة بهمة وغيرة وتخطيط، لخدمة هذا الدين، ومد نوره في الآفاق، ورد كيد أعدائه المتربصين به، وإيقاظ أبنائه النائمين عنه، ومقاومة موجات التبشير والالحاد والاباحية، جهاد في سبيل الله.
وإن معاونة الدعاة إلى الإسلام الحق، الذين تتآمر عليهم القوى المعادية للإسلام في الخارج، مستعينة بالطغاة والمرتدين من الداخل، فتكيل لهم الضربات، وتسلط عليهم ألوان العذاب، تقتيلاً وتعذيباً وتشريداً وتجويعاً إن معاونة هؤلاء على المقاومة والثبات في وجه الكفر والطغيان، جهاد في سبيل الله. وإن الصرف على هذه المجالات المتعددة لهو أولى ما ينبغي أن يدفع فيه المسلم زكاته، وفوق زكاته، فليس للإسلام -بعد الله- إلا أبناء الإسلام، وخاصة في عصر غربة الإسلام!.