تـمـهـيــد
يعتقد عدد من الباحثين والمفكرين الإسلاميين أن ما عرفته قضايا المرأة ومدونات الأحوال الشخصية والأسرة في كثير من الدول والمجتمعات الإسلامية من مراجعة وإصلاح وتغيير، يندرج في سياق التحديث الثقافي الاجتماعي الغربي الذي تشكلت معالمه في عصور التنوير الأوروبي أو أنه جاء نتيجة التوصيات والقرارات العالمية التي صدرت عن المنظمات الدولية التي عقدت في السنوات الأخيرة والتي اهتمت بشؤون المرأة وحقوقها، وأكدت على وجوب مساواتها الكاملة مع الرجل في كل الحقوق والواجبات.
ولعل ما استقر في أذهان هؤلاء كان بسبب ما يشتكون منه من ضحالة فكرية في ثقافتهم بالعلوم الشرعية، وما يعانون من نقص كبير في إلمامهم بالفقه الإسلامي، وخصبه وعطائه وتنوعه، وقابليته للتجديد والتغيير، أو ما يتصورونه من وجوب اخضاع الفكر الإسلامي، حتى في نصوصه الثابتة/الوحيلسنة التطور ومقتضيات الزمان والمكان، فضلا عما يعانون من احتقان انفصالي للموروث الثقافي الديني.
والواقع أن الباحث المتخصص المنصف في قراءته العلمية الموضوعية للتراث الديني أو الفقه الإسلامي -بعيدا عن الشعارات والتعلق بالمفاهيم والنظريات التي تستهوي الدارس وتملك عليه نفسه، وتأخذ بزمان عقله، فتبعده عن رؤية الحقيقة وتلمس طريقها- ينتهي إلى أن كثيرا مما عرفته قضايا المرأة ومدونات الأحوال الشخصية والأسرة من اصلاح وتغيير، يندرج في سياق التجديد الفقهي الإسلامي الذي هو سنة من سنن الإسلام باعتبار أن الفقه بمختلف مذاهبه ومدارسه السنية منها والشيعية، فهم بشري للخطاب الديني/الشريعة، وإعمال للفكر في معرفة مقاصد الوحي الإلاهي أو البلاغ النبوي، واجتهاد انتقائي لاختيار أنسب الآراء المبثوثة في تراثنا الفقهي ترجيحا له على غيره، أو إنشائي في بعض مسائل المرأة والأسرة استنبطت على أساسه أحكام جديدة لمسائل مستحدثة باعتبار أن النصوص تتناهى والمستجدات لا تتناهى، مما يقتضي تجديد الفهم أو إحداث ما تقتضيه سنة التجديد في الفقه من أحكام فرعية، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، خاصة في فقه المرأة التي نشأت حوله -عبر عصور الانحطاط الإسلامي-، نظريات وأحكام لا ترتكز على فهم سليم للنصوص الدينية.
وهذه الدراسة/تجديد فقه المرأة -تأتي لتؤكد حضور المرجعية الدينية في كثير مما عرفته قضايا المرأة سواء على مستوى مدونة الأسرة/فقه الأحوال الشخصية، أو في شؤون أخرى تتصل بها، وهذا على الرغم من أن بعضا من الاجتهادات الفقهية أو التفسيرات الدينية التي خضعت لها بعض النصوص في عملية التجديد والتغيير لم تكن موضع اتفاق بين العلماء والفقهاء الذين قد تتباين أفهامهم وتصوراتهم واجتهاداتهم في الفهم والتعليل والاستنتاج من منطلق أن الاختلاف في الآراء والأفكار والفهم، ظاهرة طبيعية في الإنسان ومتاصلة فيه، وأن الاختلاف في المدارك العقلية والمنطلقات الفكرية والاتجاهات النفسية غالبا ما يترتب عنه اختلاف قد يبلغ حد التباين أحيانا في استصدار الأحكام واتخاذ المواقف، وفي ذلك خصب وغناء وسعة، ورحم الله الخليفة عمر بن عبد العزيز القائل : “ما يسرني أن صحابة رسول الله لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل يقول هذا ورجل يقول هذا، كان في الأمر سعة”.
وهذا دون إنكار الاستفادة من المفاهيم الإنسانية والعلوم الحديثة التي أنتجها الفكر البشري مما أصبح يعرف اليوم بالمرجعية الكونية والتي لا تمس بثوابت الأمة أو تتناهض مع أحكامها الشرعية القطعية الثبوت والدلالة، أو التأثر بما تضمنته بعض الاتفاقيات والمواثيق الدولية، والتي كان لعدد من الدول الإسلامية مناهضات شديدة وردود أفعال متباينة بلغت حد الرفض أحيانا.
تبقى الإشارة أخيرا إلى أنني كنت مضطرا -لتوضيح المسار الذي أخذته هذه الدراسة والمرتكزات التي قامت عليها- أن أتحدث في بدايتها عن مفهوم التجديد في الإسلام وإنه غير التحديث، حتى تتبين المنطلقات والمقاصد منها.
المفهوم الإسلامي للتجديد
قال رسول الله : >إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها<(رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة).
وقال : >يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين<(رواه الإمام أحمد والحافظ بن عبد البر).
>التجديد يعني إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاها<.
تصطرع في كثير من بلاد المسلمين العقائد والمذهبيات وتتصادم في عالمنا المعاصر الأفكار والتيارات، وفي هذه الأجواء المتصارعة والمتصادمة تتعالى الأصوات بضرورة التغيير والتطوير، والتجديد، مسايرة لروح العصر وسنة الكون. وينال الإسلام من هذه النداءات والدعوات أحيانا ما لا يتفق مع طبيعة الدين وشريعته، من لدن الذين يجهلون أحكامه ومقاصده، وقيمه ومثله باعتبار أنه في رأيهم -كبقية المذاهب- تيار فكري ومذهب يخضع لسنة التطور والتغيير وسنن الكون في التدافع والبقاء.
وإذا كنا نعرف خطورة ما يخططه خصوم الإسلام وأعداؤه وما يضعونه من مناهج للنيل من عقيدته وتغيير شريعته واستبدالها بقوانين الغرب الوضعية وقيمه الدنيوية لتقريب المسلمين من عاداته ونظمه وقطع صلتهم بدينهم، حيث نقف لها بالمرصاد ونظهر زيفها وخللها ونقاومها بما يحد من خطرها ويخفف من غلوائها وتأثيرها، فإن الخطر الكبير الذي يهدد شريعتنا وهويتنا اليوم هو ما يأتينا من داخلنا ويطلع به علينا بعض “قياداتناالفكرية” التي استلبها التحديث وافتتنت بالتغيير والتطوير على كل المستويات : العقدية والتشريعية والاجتماعية، والنماء والتطور والدخول في العالم المعاصر، ومن هنا حق على المفكرين الإسلاميين والمثقفين المستنيرين بنور الوحي ممن يملكون رصيدا معرفيا وزادا علميا صحيحا، واستشعروا فداحة الدعوات الضالة والنداءات المضلة أن يتحملوا مسؤولياتهم وينهضوا لتحقيق حقيقة التجديد التي تقتضي عدم الجمود على الأشكال التاريخية، لتنزيل النصوص على الواقع المتغير المتجدد مما يتصل بمختلف جوانب حياة الإنسان الدنيوية، باعتبار أن تعرف المقاصد والغايات واستقراءها، يختلف بحسب الزمان والمكان والواقع المعيش، مما يجعل عددا من التشريعات الجزئية والأحكام الفرعية مرهونة بزمانها وأحوال الناس معها، لا أنها تشريعات وأحكام عامة لجميع المكلفين في كل الظروف والأحوال، إذ من شأن هذا التقييد، أن يوقف حركية الانسان وواقعيته وقابليته للتجديد الذي يساهم فيه الاجتهاد. وهذا في غير ما وردت بخصوصه نصوص شرعية واضحة لها مكانتها التشريعية الدائمة.
وهكذا يتبينأن التجديد يتحقق عن طريق الوعي بخطورة الجمود على بعض الأحكام، وينصرف -في جملة ما ينصرف إليه -إلى تلك النصوص الظنية المفتوحة التي يتجدد الفهم لها حسب المصالح التي يحققها في زمن وواقع معينين ربطا لها بعللها وجودا وعدما.
التجديد غير التحديث
والتجديد غير التحديث الذي يقوم أساسا على القطيعة مع الوحي والقديم من التراث بحجة ضعفه وهشاشته والأخذ بدله بالمعارف والعلوم الحديثة التي أنتجها العقل ونمت في الغرب وأثمرتها بسياسته ومفاهيمه للحياة، مما يعني لنا -نحن المسلمين- أن أخذنا بهذا استبدالٌ لتراثنا وفكرنا وعلومنا بفكر وثقافة الآخرين باعتبار أن المعرفة الحديثة وتحديث العلوم تقوم على مرجعية غربية عقلية خالصة، إذا كنا لا ننكر أهميتها وقيمتها فإنها لن تكون بأي حال بديلا عن تراثنا الذي ننطلق في تجديده من ذاته وأصوله ومرجعيته الأساسية -الوحي- لإعادة التأصيل وإشاعة التنويرونفض الغبار عما لحق فكرنا وثقافتنا وعلومنا الإسلامية، ولن يكون التجديد بقطع الصلة مع الماضي -كما هو شأن التحديث بمفهومه الغربي- ما دمنا نسعى للحفاظ على هويتنا وخصوصيتنا وإثبات ذاتيتنا التي يبقى التراث أحد مكوناتها من غير ما انغلاق أو تقوقع أو استكانة إلى الماضي بقيمه وأفكاره وعلومه دون نزوع إلى التجديد والابتكار والإخصاب والإغناء.
إنها رسالة جهاد ونضال ومقارعة وحجاج وإرادة لا تغلب في سبيل العودة إلى الدين وتجديده، بالرجوع إلى أصوله وتعاليمه وأحكامه، وتلك لعمري مهمة شاقة عسيرة إلا على ذوي الهمم العالية والعقول المستنيرة والنفوس المومنة المطمئنة إلى نصر الله وعونه وتأييده، البعيدة عن كل التيارات والنزاعات الطائفية والمذهبية، إنها مهمة الطائفة التي قال عنها رسول الله : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون>وحتىتقوم الساعة”.
والتجديد الذي يعنينا هنا يتعلق بفقه المرأة وقضاياها بمختلف مذاهبه ومدارسه، وتقديم اجتهادات جديدة في نوازل وقضايا قديمة بحكم تغير الزمان والمكان والأعراف، واجتهادات أخرى فيما استحدث منذ زمان وما يستجد من مستحدثات ومسائل في عصرنا ظلت دون إجابات أو حلول لها، انطلاقا من أن النصوص تتناهى والأحداث متجددة لا نهاية لها. وكل ذلك يجب أن يكون في سياق النسق الإسلامي ومن داخله أي منطلقا من هداية الشرع وثوابته ومقاصده لا من خارجه الذي يتخطى كل ذلك، حتى لا نقع في إسقاط نظريات أو قوانين دخيلة على فقهنا كإسقاط البنيوية والألسنية على الدراسات النصية واللغوية، ونسقط في شرك الحداثيين الذين تعميهم الرغبة في التجديد -لتتقدم الشعوب الإسلامية وتلتحق دولها بركب الحضارة- ولو على حساب النصوص الشرعية القطعية الثبوت والدلالة من قرآن وسنة ومقاصد الشريعة ومداركها التي تخفى على مثل هؤلاء الادعياء الذين يريدون تخطي الثوابت والقطعيات وجعلها موضع تحديث وتغيير واعتبار المصلحة الدنيوية مقدمة على النصوص الشرعية أو تطويعها بما يناسب التحديث والتطوير على الرغم مما تم الاتفاق عليه من أن المصلحة دائما مع النصوص الشرعية القطعية وحكمها، وأن مصلحة العباد في شرع الله.
ذ.عبد الحي عمور
-يتبع-
(ü) رئيس المجلس العلمي المحلي بفاس