شيء عن اليهود في تاريخنا 2/2
جاء الراشدون (رضي الله عنهم) لكي يشهد المجتمع الإسلامي تفرداً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاُ عما شهده عصر الرسالة، فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وتحول الدولة الإسلامية إلى دولة عالمية، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى. لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم تحت جناحيه أعدادا كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات، ولقد حظي اليهود أسوة بغيرهم بمساحة مدهشة من العدل والحرية والسماحة وتكافؤ الفرص، فيما لم يشهدوا عشر معشاره في أية بقعة أخرى في الأرض خارج دار الإسلام، ويكفي أن نرجع إلى كتاب المؤرخ البريطاني المعروف السير توماس أرنولد (الدعوة إلى الإسلام) لكي نضع أيدينا على حشود الشواهد التاريخية في هذا المجال.
في العصر الأموي، والعصور العباسية التالية، حيث ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً، وحيث أخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطرادا، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.
لقد فتح المسلمون، قواعد وسلطة، صدرهم لغير المسلمين، يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله. لقد أسهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها دونما أية عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه، وأتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى، بما فيهم اليهود، أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة، فنموا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية، بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط، وملأوا بهذا وذلك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت أن تصبح من اختصاص أهل الكتاب، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية من نصيبهم كذلك.
إنه مجتمع تكافؤ الفرص، والحرية العقدية، والانفتاح، لقد استجاب المسلمون لتحديات التنوع، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم بهم وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى، أن يكونوا رفقاء بأهل ذمته.
الوقائع كثيرة، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال، وعلى مختلف الجبهات، ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية عموماً.
لقد تمتع أهل الذمة بقسط وافر من الحرية لقاء تأديتهم الجزية، وارتبطت قضاياهم في أمورهم المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين، وأقاموا في مزارعهم ومنازلهم الريفية، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية وحافظوا على لغاتهم الأصيلة، وفي المدن تقلدوا مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة، وكان للعهدين القديم والجديد من التوراة والإنجيل ترجمات عربية معروفة، ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية من اليهود، ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصّهم المعتضد العباسي مراكز هامة في الدولة لليهود، وكان لهم في بغداد أحياء وأسواق كبيرة ظلت مزدهرة حتى سقوط المدينة، وقد زارها الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين، وثلاثة عشرين كنيساً، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين بصفته سليل بيت داود النبي \ ورئيس الملة الإسرائيلية، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى، وقد روي أنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة، وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة وأحاط به رهط من الفرسان، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته (أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود).
د.عماد الدين خليل