انطلاقا من قوله عز وجل :
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر : 9)
الحفظ بالحفظ
من التوفيقات الإلهية أن الله تعالى ألهم نبيه أن يقوم بكل الخطوات التي من شأنها أن تؤدي إلى حفظ هذا القرآن. فكان من تلك الخطوات حفظ استدعاء النبي للكُتَّاب، لمن يكتب القرآن الكريم. وحينما نتحدث عن الكتابة يلم بالذهن أن العرب كانوا أمة أمية وأنهم كانوا لا يكتبون. وهذا نوع من المبالغة لابد من رده، فالعرب كانوا أمة أمية في أغلبهم، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا جهالا بالكتابة، فقد كتبوا نصوص الشعر وكتبوا المعلقات بماء الذهب، وكتبوا المعاهدات على ظهر الكعبة، ليقرأها من كان يقرأ، ولاشك في ذلك، فرسول الله جاء في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، لكنه نقلها من ذلك، من أمة أمية، انتقلت الأمة من آية : {اقرأ باسم ربك الذي خلق} إلى آية أخرى نزلت وهي : {ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا ياب كاتب أن يكتب} فتتكرر كلمة الكتابة لأن الأمة أصبحت أمة كاتبة.
ورسول الله قد اتخذ له كُتَّابًا للوحي، وقد بلغ به بعضهم ثلاثا وأربعين كاتبا، كانوا كُتَّابا مجيدين وكان منهم متخصصون، وكان زيد بن ثابت وكان أبي بن كعب من أشد الناس تخصصا، وكان الخلفاء الأربعة كتابا، كل هؤلاء كانوا يكتبون.
كان النبي يكتب رسائله، وقد ذكر ابن سعد مائة وعشرة من الرسائل، وكانت تأتيه الوفود، وقد زاره سبعون وفدا وكتب لهم، أحصى بعض الباحثين مائتين وستا وأربعين رسالة ووثيقة، هي الآن موجودة في كتاب “الوثائق السياسية في العهد النبوي” للمرحوم حميد الله.
بمعنى أن الكتابة أبدا لم تكن عائقا أو مانعا من أن يكتب كتاب الله، فقد كتب القرآن الكريم، وكان رسول الله يستقرئ الذي يكتب، ويروي زيد بن ثابت أن النبي كان يدعوه إلى أن يكتب، فإذا كتب قال : اقرأه علي، فيقرأه فيقيمه النبي . فالكتابة كانت إعدادا لهذه الأمة، وكيف لا، والنبي يقرأ في هذا القرآن من وظائفه أنه {يتْلو صحفا مطهّرة فيها كتب قيّمة}، {لم يكن الذِين كفَروا من أهل الكتَاب والمشركين منفكين، حتى تاتِيهُم البيّنة، رسول من الله يتلو صحفا مطهّرة فيها كُتب قيّمة} فالإشارات إلى هذا، والإشارات إلى الكتاب وتسمية هذا القرآن كتابا يساعد طبعا على الذهاب في هذا الاتجاه، ثم إن النبي كان حريصا على أن الناس يظلون مدركين أو متصلين بالقرآن. ويكفي أن أقول : إن الناس بعد اهتماهم بالقرآن، قد استوعبوا هذا القرآن وحفظه عدد كبير منهم. فقد بعث النبي في السنة الرابعة إلى بعض المشركين نحوا من سبعين صحابيا من القراء، ليعلموهم القرآن، ثم غدروا بهم، فحينما يبعث النبي سبعين من القراء، فمعنى ذلك أن القراء كانوا متوافرين وكانوا كثيرين، لأن النبي لا يمكن أن يبعث بكل من عنده، يكفي أيضا أن نقول إنه حينما وقعت واقعة اليمامة، وقيل إن القتل قد استحر واشتد بالقراء، قالوا إن القراء الذين قتلوا باليمامة كانوا ما بين سبعمائة وتسعمائة قارئ.
الحفظ بالجمع والتدوين
إذن هذه الإجراءات النبوية التي تضافرت كلها أومأت وأرشدت إلى ضرورة الاهتمام بهذا القرآن. ثم إن هذا القرآن حظي بأمر مهم جدا، وهو أن هذه الأمة بعد وفاة نبيها سارعت إلى جمع القرآن وإلى جمع كل المكتوبات التي كانت على عهد الرسول .
فزيد بن ثابت في حديث طويل يرويه الإمام البخاري -في كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن- يقول : إن أبا بكر دعاه بعد أن كان عمر قد اتصل بأبي بكر، وقال له إن القتل قد استحر واشتد بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فإني رأيت أن تجمع القرآن. فقال أبو بكر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسولالله . قال عمر : إنه خير. أقنعه بأن هذا خير للأمة، فاستدعيا زيد بن ثابت فأقنعاه بعد تردد بهذه العملية. ثم قام بجمع القرآن. قال له أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك. ولذلك دعاه إلى جمع القرآن، بمعنى أن أبا بكر وأن الصحابة لاحظوا فيه الصفات المطلوبة : أنه شاب له عزمات الشباب، وأنه عاقل وله ذاكرة واعية، وأنه ليس متهما، أي أن له أخلاقا وأمانة علمية. ففوض إليه هذا الأمر الذي قال فيه زيد بن ثابت : فوالله لو كلفاني حمل الجبال -نقل الجبال- ما كان ذلك أشد علي مما كلفت به. ثم قال زيد : تتبعت القرآن، أجمعه في العسب واللخاف ومن صدور الرجال. وفي رواية أنه جمعه من القصب ومن الكرانيف ومن كل ما كان القرآن مكتوبا فيه.
فبدأت هذه العملية في وقت مبكر جدا، وكتب القرآن بهذه المبادرة من أبي بكر ومن عمر رضي الله عنهما. وكانت المبادرة تقوم على أساس أنه لا يدون في كتاب الله إلا شيء يشهد له من خلال ما هو مكتوب، كان الناس يأتون بمكتوباتهم، وهذه المكتوبات يشهد عليها الصحابة فتدون، والزمن يومئذ مبكر، والصحابة متوافرون، فتمت هذه العملية المباركة الأولى، ثم جمعت الصحف وكانت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم صارت إلى حفصة، ثم كان بعد ذلك كتابة عثمان بن عفان للمصحف الإمام.
خصوصية حفظ القرآن الكريم
هذه العملية التي قام بها المسلمون قامت بها الأمة في هذا الفجر من تاريخها هي عملية في الحقيقة متميزة، ذلك بأن الله تعالى إذ خص هذا الكتاب بأنه سيكون محفوظا، فقد ألهم هذه الأمة هذا العمل، ونحن حينما نبحث عن وجود الكتب في مقابل وجود الأديان، إننا نعلم أن الأديان كثيرة جدا، وأن الأديان منتشرة. لقد كان يتوافر في البلد الواحد أو في الجهة الواحدة، نحو من مائتي ديانة في مصر القديمة في لحظة واحدة. كانت تتكاثر الديانات في بعض المناطق. لكن هذه الديانات التي مرت عبر تاريخها ليس لها مقابل مماثل من الكتب التي كانت معتمدة لدى هذه الديانات، بمعنى، أن كثيرا من الديانات أضاعت كتبها وأنها لم تبق. إن الظروف التاريخية التي مرت بها هذه الديانات، هي ظروف -حقيقة- خاصة، وظروف تدعو إلى تمييز كتاب الله عما سواه. إن الظروف التي مر بها موسى عليه السلام حينما خرج من أرض مصر، وحينما أقام في التيهر، وحينما منع وحرم أن يدخل الأرض المقدسة، ومات وهو ينظر إلى الأرض المقدسة ولم يدخلها. بعد ذلك وقعت أشياء وأشياء. في كتب بني إسرائيل في سفر الملوك الثاني، أن هذه التوراة إنما عثر عليها في زمن يتجاوز السبعمائة سنة. على كل، فالكتب الكبرى في التوراة، التي هي الكتب الخمسة : سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العدد، وسفر التثنية، وسفر اللاويين، بحسب ما يذكره علماءالتاريخ كتبت في فترات متغايرة.
فالسفران الأولان -التكوين والخروج- كتبا في القرن التاسع قبل الميلاد، وسفر العدد كتب في القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد قرنين، والسفران الأخيران -سفري التثنية والعدد- كتبا في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. وهكذا، يتحدث علماء الأديان من غير المسلمين، من الألمان، أمثال : إيفالد وتوخ وفيلهاوزن الذين تحدثوا بعمق عن هذه المرحلة، وقالوا : إن هذه العبرية طبعا مرت عبر مراحل، وإن اللغة تغيرت لاشك وأنها -على الأقل- مرت بأربع مراحل من اللغة : من صفائها، من ضعفها.. إلى غير ذلك.
فلهذا السبب لاشك أن اللغة تغيرت، وأن هذا الكتاب أصبحت له هذه الخصوصية وأصبحت له هذه الميزة بسبب أنه جمع في هذه الظروف.
ليس أمر الكتب الأخرى، كتب المسيحية، بعيدا عن هذا. فقد كتبت -أيضا- في أزمنة متأخرة، ليست متأخرة تماما، ولكن يكفي أن يكون من الكتب الأربعة التي لدى المسيحيين كتابان جمعهما رجلان ليسا من الحواريين، وهما مرقص ولوقا، وأن الكتابين الآخرين ألفهما وجمعهما حواريان، من أصحاب عيسى عليه السلام.
على كل، هذه الكتب جمعت، وأهلها -طبعا- يعتمدونها، لكن الذي يعنينا نحن من أمرها أن هنالك وقائع تاريخية، والواقع الذي مر به كتاب الإسلام واقع خاص وقد جمع في ظرف والصحابة متضافرون واللغة حية والشهود حاضرون، ثم انطلقت هذه الأمة بهذا الكتاب تعمل به وتنفذه وتطبقه في حياتها.
الكتابة القرآنية الخاصة
إن من الشواهد الأخيرة التي أذكرها على اهتمام أو عناية أو حفظ أو أمانة المسلمين في حفظ القرآن شاهدا أخيرا، وهو الكتابة القرآنية. إننا فعلا حينما نقرأ في كتاب الله، حينما نفتح المصحف، تطالعنا ظاهرة معروفة، وهي الكتابة القرآنية الخاصة. سئل كبار الأئمة في زمن مبكر، سئل الإمام مالك، عن الرجل يريد أن يكتب القرآن، أيكتبه على الكتابة الأولى أم يكتبه كتابة جديدة، فقال لا إنما يكتبه كما كتب مصحف عثمان بن عفان. أي إن الناس عرفوا أن هناك تطورات في الكتابة وقعت، لكن العلماء -في مجملهم- ظلوا داعين إلى المحافظة على الرسم العثماني.
هذا الرسم العثماني حافظوا عليه ويكتب على نحو ما تلقي، وهو -في كتابته- يعود إلى أسرار، وإلى أسباب عظيمة جدا.
ولكن على كل حال، لابد أن يبقى على المكتوب كما هو. فمثلا التاء في بعض الكلمات -تاء التأنيث- تكتب مربوطة كما هو شائع لدينا، لكن لدينا في كتاب الله كلمات معينة هي ثلاثة عشرة كلمة، كتبت مربوطة مرة وكتبت مبسوطة أخرى، وهي كلمة امرأة، وابنة، ونعمة، ورحمة، وسنة، وبقية، وفطرة، وجنة، وشجرة، وقرة، ومعصية.. ثلاثة عشرة كلمة بالتحديد. هذه الكلمات وردت في بعض الأماكن مكتوبة بتاء مربوطة ككلمة نعمة، أو رحمة، وردت تسعا وسبعين مرة، كتبت في معظمها بالتاء المربوطة، ولكنها كتبت سبع مرات مبسوطة.
لا أحد من العلماء استطاع أن يتدخل وأن يجري ذلك فيقول إنها تكتب مربوطة في جميع تلك الحالات.
ونفس الأمر يقال عن كلمة نعمة، فقد وردت أربعة وثلاثين مرة، وكتبت في إحدى عشرة مرة مبسوطة. بمعنى أن المسلمين لم يستطيعوا رغم تطور الكتابة، رغم أن بعض علمائهم أمثال ابن قتيبة كان يقول لما كان يقف أمام كلمات الأصول التي تكتب الألف فيها بالواو، وهي الصلاة والزكاة والحياة والربا، كان يقول : لولا اجماع الناس على هذا كان أحب إلي أن أكتبها بالألف.
ولكنه لم يستطع أن يغير ذلك، بمعنى أن أمتنا هذه حافظت على هذا الكتاب ما وسعها الأمر، وأنها لم تتدخل فيه بشيء، ولو كان لها أن تتدخل لتدخلت على الأقل في كتابته، والكتابة أمر خارجي. كل ذلك يفيد أن هذه الآيات التي نتلوها، أن القرآن الذي يرتله المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لم ينله أي تغيير ولم يصب بزيادة ولا بنقص، ولم يعتد عليه معتد، ولم يضع يده فيه آثم. فحينما يقرأ الإنسان الآية القرآنية فليعلم أنه يقرأها كما أنزلها اللهسبحانه وتعالى، وكما تلاها رسول الله وقد بذلت الأمة الإسلامية جهودا عظيمة في السير في هذا الطريق.
ولعلنا نحن كنا في المغرب، في هذا الجناح الغربي من بلاد الإسلام، من أكثر الناس حرصا على نقل القرآن، ولا يزال ولله الحمد طلبة القرآن وحفاظه في رؤوس الجبال وفي البوادي وفي القرى وفي المدن يبدون آيات عجيبة من حفظ القرآن بقراءاته المتعددة، ويتبارون في ذلك. ولا يزال القرآن ولله الحمد في هذا البلد محفوظا. نسأل الله تعالى في هذه الساعات التي نرجو ونحسب على الله تعالى أن تكون ساعة إجابة، لأننا في العشر الأواخر من رمضان، ولأننا في هذه الساعات التي يقترب الناس فيها من الإفطار، وللصائم دعوة مستجابة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ أمير المؤمنين محمدا السادس، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يوجهه إلى وجهة ترضيه ويرضى بها عنه الله سبحانه وتعالى. ونسأله أن يشد عضده بشقيقه وأخيه المولى رشيد. نسأل الله تعالى لأمتنا كلها، لأمتنا جمعاء، كل خير وكل سداد وكل رشد.
(ü) ألقى هذا الموضوع في سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية بتاريخ 23 رمضان 1422/ 11 دجنبر 2001