إن الحرية في معناها الواسع تدل على حق الإنسان الطبيعي في ممارسة إرادته والتعبير عن ذاته وقضاياه الخاصة والعامة بقناعة واختيار, وفق معايير محددة تخدم الفرد وتنظم المجتمع وتسمو به .
وهي ليست حدثا طارئا أو جديدا في تاريخ البشرية, وإنما هي فطرة مغروسة في أعماق الإنسان, فطره الله عليها. ولهذا نجدها تأخذ مساحات شاسعة من تفكير العقل البشري واهتماماته منذ القدم إلى اليوم, كل يسعى إلى هدفين اثنين لا ثالث لهما : تحرير حرية الإنسان في إطار تصورات معينة, أو تكريس عبوديته واستغلاله. وقد ظل مفهوم الحرية في الثقافات القديمة و الثقافة العربية قبل الإسلام محتفظاً بمعناه البسيط الذي يدل على الحالة المقابلة للرق. و لم يطرأ عليه تقريبا أي تغير حتى جاء الإسلام بفكره التحرري الذي يولي الإنسان حرية الاختيار , سواء في نفسه أو فكره أو سلوكه . فتوسعمفهوم الحرية, و صار يحتوي على دلالة اجتماعية أوسع من دلالته التي تعالج في دائرة حقوق الأفراد, كما أن الحرية أصبحت موجهة بواجبات التكليف , في إطار مسؤولية الإنسان عن اختياره (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). وهذا لا يعني الإلزام القسري , لأن الإلزام يتعارض مع حرية الاختيار التي أقرها الإسلام في قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} وإنما يعني تحمل الأمانة بقناعة وإيمان, من أجل تحقيق المسؤولية. يقول تعالى :{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}. والأمانة هنا فسرها بعض المفسرين كابن عباس بالفرائض, وبالطاعة كابن كثير والزمخشري , وبالتكليف كالفخر الرازي, وهي معان لا يمكن تحقيقها والمحاسبة عليها إلا إذا اختار الإنسان تأديتها بإرادة حرة مستقلة. من هنا ألا يمكن أن نستنتج أن الأمانة في الآية الكريمة هي أمانة الحرية؟؟ وأن حرية الإنسان لن تتأكد وتتحقق صدقا وعدلا إلا حين يدرك تكريم الله له : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، حيث الضوابط التي تنظم حياة الفرد في علاقته بالمجتمع والعالم بأسره, وليست القيود التي تفرضها أخلاقيات الاستغلال والجشع والخوف, ولا الفوضى التي تسود نتيجة الأنانية وسيطرة حب الذات ؟؟. وأنه لا حرية بدون عقل فاعل يمارس التفكير والسؤال, ويتطلع نحو أفق متجدد من المعارف والتصورات؟؟
إن الحرية في الإسلام منظمة تنظيما تتيح للإنسان امتلاك القدرة على التصرف والاختيار وفق ضوابط شرعية وقواعد عقلية بحيث يسلم ناصيته لله وحده لا شريك له, فلا يتحكم شيء فيه مهما كان, أو تُمس مصالح الفرد والمجتمع أو تتعارض. فمثلا المسلم الذي يمتلك حريته حقا لا يمكن أن تتحكم فيه شهوة من الشهوات, أو عادة من العادات, أو لحظة من لحظات الغضب والانفعال, فهو سيد شهواته وعاداته وكل لحظاته, أو مثلا حرية الرأي منضبطة باحترام الآخرين , وعدم الاعتداء عليهم بالقذف أو الغيبة أو النميمة, أو مس مقدسا تهم, أو تسفيه آرائهم, فلا يتحرك إلا بإرادته واختياره. وهذا منتهى التعامل الحضاري المنضبط بإنسانية الإنسان العاقل الأخلاقي الذي يستحسن الخير والحبّ والجمال، ويستقبح القبح والشرّ في سلوكه وعلاقاته ، ويستشعر قيمتها في وعيه ووجدانه .وبذلك يكون ضمير الفرد ضميراً اجتماعياً ملتزما بضوابط الحرية بدافع داخلي نابع من شخصيته وتكوينه الديني وليس مما يفرضه عليه أي قانون, مستشعرا عبء مسؤولية الأمانة باتصاله القوي بالله عز وجل : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}صدق الله العظيم..
د.أم سلمى