1) انتكاسة تاريخية :
لم تتعرّض الأمّة في مختلِف أطوار تاريخها لنَكْسةٍ أخطر على دينها ومستقبلها وحضارتها ودعوتها ورسالتها من نَكْسَتها في رُكْن الزكاة، الذي أُهْمِل إهْمالاً تاماً من الحُكَّامِ الصالحين على مراحل، فلم يَبْذُلوا جُهداً كبيراً في تنظيمه جمعا وتوزيعاً وتأسيساً وتنمية وإبداعاً. كما أُهْمِل من العُلماء والمفكرين إهْمالا تاماً من جهة الاجتهاد البنائي والحضاري والرسالي والتّعْبِيئِي لمختلف طاقاتِ الأمة وتوجيهِها في المسار الدّاعِمِ للعِلْم الدّعوي المُتحَرِّك في جميع مجالات البِنَاءِ لقُوّاتِ المَنَاعَةِ الكفيلة بحماية الأمّة من السقوط والانحلال.
2) نِظْرة غيرنا إلى دْوْر زكاتنا :
يقول صاحب كتاب >الإسلام والنظام العالمي الجديد< عن الزكاة : >وكانت هذه الضريبة فرضا دينيا يتحتم على الجميع أداؤه، فالزكاة نظام اجتماعيٌّعَامٌّ، ومَصْدَرٌ تدَّخِر به الأمة المحمديّةُ ما تمد به الفقراء وتُعينهم، وذلك على طريقة نظاميّة قويمة، لا استبداديّة تحكُّمية، ولا عرضيّة طارئة.
وهذا النظام البديع كان الإسلام أول مَنْ وضَعَ أساسَهُ في تاريخ البشرية عامّةً، فضريبة الزكاة -المُنْفقَة على المعوزين والعاجزين- هدَّمت السِّياجَ الذي كان يفصِل بين جماعات الدّولة الواحِدَة، ووَحَّدَت الأمَّة في دَائِرةٍ اجتماعية عَادلةٍ، وبذلك بَرْهَن هذا النظام الإسلامي على أنه لا يَقُومُ على الأَثَرةِ البَغِيضَةِ<.
ويقول المستشرق الشهير “ماسينيون”: >إنّ لِدِين الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدَّدُ في تحقيق فكرة المساواة، وذلك بفرْض الزكاة التي يَدْفَعُها كُلّ فرد لبيت المال، وهُو يُنَاهِضُ الدُّيُونَ الرِّبويّة، والضَّرَائِب غَيْر المُبَاشِرة التي تُفرَض على الحاجات الأوليّة الضروريّة. ويقِفُ في نفس الوقت إلى جانب المِلكيّة الفَرديّة ورَأس المال التجاري، وبذلك يحُلُّ الاسلام مرَّة أخرى مكاناً وسَطَا بين نظريات الرأسمالية البورجوازية، ونظريات الشيوعيّة< من العبادة في الإسلام للدكتور القرضاوي ص 264 بتصرف.
3) نظرة بعض الغيورين من علماء الأمة المصلحين لدور الزكاة :
قال العالم المصلح رشيد رضا رحمه الله تعالى : >إن الإسلام يمتاز على جميع الأديان والشرائع بفَرْضِ الزكاة فيه ولو أقام المسلمون هذا الركن من دينهم لما وُجد فيهم -على كثرتهم- فقيرٌ مُدْقِع، ولكن أكثرهم تركوا هذه الفريضة، فجَنَوْا على دينهم وأمَّتِهم، فساروا أسوأ من جميع الأمم حالا في مصالحهم المالية والسياسية حتى فقدوا عِزّهُم وشرفهم، وصاروا عالة على أهْل المِلَل الأخرى، حتى في تربية أبنائهم وبناتهم، فهُمْ يُلْقُونَهُم في مَدارِس دُعاة النصرانيّة، أو دُعاة الإلْحاد، فيُفْسِدون عليهم دينَهم ودُنْياهُم، ويقطعون روابطهم المِليّة والجِنْسِيّة، ويُعِدُُّّونهم ليكونوا عَبيداً أذِلّةً للأجانب عنْهُم.
وإذا قيل لهم لِماذا لا تؤسسون لأنفسكم مدارسَ كمدارسِ هؤلاء الرهبان والمبشرين أو الملاحِدة الإباحِيّين؟!
قالوا : إننا لا نَجِدُ من المال ما يقوم بذلك!!
وإنما الحق أنهم لا يجِدُون من الدِّين والعَقْْل وعُلُوِّ الهمة والغَيْرة ما يمكِّنُهم من ذلك!!
فهم يَرَوْن أبناء المِلل الأخرى يَبْذُلُون للمدارس وللجمعيات الخيريّة والسياسيّة مَالاَ يُوجِبُه عليهم دينُهُم، وإنما أوجَبَتْه عليهم عقولهم وغَيْرتهم المليّةُ والقوميّة، ولا يغارون منهم. وإنما يرْضَوْن أن يكونوا عالةً عليهم، تركوا دينهم فضاعَتْ بإضاعَتِهم لَهُ دُنياهم {نَسُوا اللّه فأَنْسَاهُم أنْفُسَهُم}(الحشر : 19).
فالواجب على دُعاةِ الإصلاح فيهم أن يَبْدأوا بإصلاح من بَقِي فيه بقية من الدين والشرف، بتأليف جمعيّةٍ لتنظيم جمع الزكاة وصرْفها، ويجِبُ أن يُرَاعَى في تنظيم هذه الجمعيّة أنّ :
< لِسَهْمِ {المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم} مَصْرفاً في مُقَاومة الرِّدَّة والإلحاد.
< وأن لسهم {في الرِّقاب} مصْرفاً في تحرير الشعوب المُستعْمرة.
< وأن لِسَهْم {سَبِيل الله} مصرفاً لإعادة حُكْم الإسلام، ومصْرفاً آخرَ في الدّعْوةِ للإسلام والدُِّّفاع عنْهُ بالأَلْسِنَة والأقلام، إذا تَعذّر الدفاعُ بالسُّيُوف والأَسِنَّة.. وهكذا، وهكذا.
إن إيتاءَ جميع المسلمين أو أكثرهم للزكاة، وصرْفِها بانتظامٍ كافٍ لإعادة مجد الإسلام، بل لإعادة ما سَلَبَهُ الأجانبُ من دار الإسلام، وإنقاذ المسلمين من رِقِّ الكفار.
وما هي إلا بَذْلُ العُشر أو رُبُعُ العُشر مِمّا فَضل عن حاجة الأغنياء، وإننا نرى الشعوبَ التي سادتِ المسلمين -بعد أن كانوا سادتهم- يبْذُلون أكْثَر من ذلك في سبيل أمّتِهم ومِلَّتهم، وهو غَيْرُ مفروض عليهم من ربهم< المنار 597/10 بتصرف.
إن هذا الا قتراح الجيد كان ينبغي أن يتلقّفَهُ العلماء والدّعاة والغيورون، ويُعمل على تطبيقه أولا، ثم يُجْتَهَدُ في ترقيته وزيادة تنظيمه ثانيا، ثم يَقَعُ الانتقال إلى تنظيم زكاة الفطر جمعا وتوزيعا، ثم يقع الانتقال إلى مختلف الصدقات والتبرعات وهكذا حتى يُقْضى على مختلف أمراض الأمة المُزمنة، والتي لازالت تنخُر كيانها إلى الآن.
إن الجمود والركود جعل الأمة تسقط في استعمار أبشع وأخبَثَ، استعمارٌ يعُدّ جَمْعَ الزَّكَواتِ والتبرعات وتأسيس المصارف لها إرْهاباً ينبغي أن يُحارَبَ بدون هَوَادة، وذلك هو العقاب الرباني الذي حَذّرنا منه رسول الله إذا نَحْنُ تراخَيْنا في إقامة الدين بجميع مبادئه وأُسُسِه.
4) عقوبة التخلّى عن تفعيل مبادئ الإسلام للنهوض بالأمة :
إن التهديدَ الربّاني للأمة بإذْهَابِ أثرها واستِبْدالها بِمن ينْهَضُ بالدِّين نهوضاً جِدّيّاً.. كثيرة جداً من ذلك قول الله تعالى : {وإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أمْثَالَكُمْ}(محمد : 39).
أما الرسول فقد فصّل في الجرائم والعقوبات تفصيلا دقيقاً يقطَعُ الأعْذَار، ويجْعَلُ المتخاذلين من المسؤولين والعلماء والنافذين يتحمّلون مسؤوليتهم أمام الله تعالى وأمام الأمة، وأمام الإنسانية جمعاء. قال : >يا معْشَر المُهَاجِرين خِصَالٌ خَمْسٌ، إن ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، ونَزَلنَ بكُم -وأعوذ بالله أن تُدْرِكُوهُنّ- :
> لمْ تَظْهَر الفَاحِشةُ في قوْمٍ قَطُّ حتّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِم الأوْجَاعُ التي لم تَكُن في أسْلافِهِمْ.
> ولمْ ينْقُصُوا المِكْيَالَ والمِيزانَ إلاّ أُخِذُوا بالسِّنِين، وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السُّلْطَان.
> ولمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أمْوالِهِمْ إلاّ مُنِعُوا القَطْر من السّماءِ، ولوْلاًالبهائم لمْ يُمْطَرُوا.
> ولمْ ينْقُضُوا عَهْد الله وعَهْدَ رَسُولِه إلاّ سُلِّطَ عَلَيْهِم عَدُوٌّ مِن غَيْرِهِم، فيأَْخُذُ بَعْضَ ما في أيْدِىهم.
> وما لمْ تَحْكُم أئِمّتُهُم بكِتَابِ اللّه إلاّ جُعِلَ بَأْسُهُم بيْنَهُم<(رواه ابن ماجة والبزار والبيهقي واللفظ له).
وقد أبْتُليَتْ الأمة بهذه الخصال الخمس كُلِّها، وأكثر منها، فهانَتْ على الله تعالى، وهانتْ على الناس، فتسلط عليها أعْدَاؤُها وأذلوها وفرّقوا شملها، فجعل الله بأسهم فيما بينهم، يتعاونون مع أعدائهم على تصفية بعضهم بعضا، يخافون من الناس ولا يخافون من الله تعالى، ويستحيون من الناس -إن استَحيَوْْا- ولا يَسْتَحْيُون من الله تعالى.
ومع هَوَان الأمة فرحمةُ الله قريب من المحسنين، وبشائر النصر بدأت تلوح في الأفق القريب والبعيد، نسأل الله تعالى أن يتداركنا بلطفه ورحمته حتى ننهض من جديد، فنتفاعل مع أركان ديننا ومبادئ اسلامنا، ونُقَطِّعَ كُلّ وساوسِ الخوفِ، وأوهام اليأس، فنعمل على بناء مؤسسات الزكاة، ومؤسسات التبرعات، ومؤسسات التزكية والتنمية الشاملة علِماً وأدبا وأخلاقا وصحة شاملة حتى تستأنف الأمة مسيرتها الدّعوية الطويلة والرشيدة لإنقاذ الإنسان الغارق في أهوائه المُهلكة له.