لقد انصب التنظير للأدب الإسلامي على أمرين : أولهما على المضمون، وثانيهما على الأشكال الفنية، وقد اعْتُبِرَ التنظير للمضمون أيسر قياسا على هذه الأشكال الفنية (1) نظرا لطبيعتها كما سنرى. إلا أن أهم ما حرص عليه الأدباء الإسلاميون كل الحرص، هورسم الحدود لهذا الأدب، حيث طرحت قضية الاِلْتِزَام في الأدب الإسلامي وعلاقته بحرية الأديب من جهة، وعلاقته بِالإِلْزَامِ من جهة ثانية، “فالالتزام كما هومعروف غير الإلْزَام، فالإسلام لم يلزم شاعرا بأن يكون كذلك، ولم يحمله عليه ولم يكرهه، ولكن دعا إلى ذلك، وحث عليه واستحسن واستقبح ورضي وكَرِهَ، وتركهم أحرارا فيما يقولون، إلاَّ أن يخوضوا في الأعراض ويستبيحوا الحرمات ويشيعوا الفواحش ويهزؤوا بالدين ويسخروا من الأنبياء، فحينذاك يكونون قد تجاوزوا حدود المباح، وقد يلقون اللوم والعقاب، أوعلى أقل تقدير من الصدود والإعراض والاستهجان والاستنكار، ما يكافئ خروجهم هذا، شأنهم شأن غيرهم من الناس، ولا يشفع لهم حينذاك إبداعهم ولا تجويدهم في فنهم”(2)، ولعماد الدين خليل رأي أكثر صراحة وصرامة في هذا الأمر حين قال بأن الإسلام “قد وضع معالم وحدودا ومساحات، وألزم أدباءه بعدم تخطيها لئلا يقعوا في الحرام، ولكن هذه المعالم والحدود ليست سوى إشارات تحذير للأديب المسلم كيلا يلتصق بالمستنقعات، ويتحول إلى أداة رخيصة مبتذلة تافهة بالأحرى إلى إمَّعَةٍ تقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، إمعة تمدح مع المداحين لغير ما سبب، وتهجومع الهجائين لغير ما سبب، إمعة تكتب عن العفن والتفسخ والفساد، لا لكي تنفِّر الناس من مستنقعاتها وتدفعهم إلى أن يرتفعوا إلى فوق، ولكن تكتب عنها محبِّبة مغرية داعية أكبر قدر من الناس لكي يخوضوا في أوحالهم إلى أعناقهم، إمعة تصدر عنها الكلمة أوالتعبير مبتذلة رخيصة دونما إحساس أصيل، ودونما اعتزاز إنساني بأن هذا الذي يصدر إنما هوقطعة من وجدان الأديب، كلمات وتعابير تصدر بين الحين والحين دونما داع أونداء كما يصدر النعيق عن البوم في الأبنية المهجورة والخرائب، إمعة تقول ما لا تعتقد وتعتقد ما لا تقول، تعيش ازدواجا بين ادعاءاتها ونداءاتها التعبيرية وبين واقعها الفجِّ المتفسخ المريض.”(3)، وبالتالي فإن الأديب المسلم “يعرف كيف ينظر إلى العالم وهويكتوي من حرِّ التجربة الملتهبة، فلا ينصهر ويخرج عن دائرة الالتزام، يعرف كيف ينظر من نافذة العقيدة التي انتمى إليها، كيف يطل على العالم من فوق، من المكان العالي الذي رفعه إليه الإيمان، هنالك، حيث يرى جيدا المسالك والمنعرجات والدروب، حيث مساحات الضوء وبقع الظلام، حيث يعرف خارطة الأشياء فلا يتردد ولا يتأرجح ولا يهيم”(4).
هذا إذن هو المنظور الإسلامي للالتزام، تصورلا يتحرك الأديب إلا على هديه وبنوره، وحِسٌّ وجداني مفعم يمنحه فرصة الوفاق مع الكون والعالم والوجود، وبين هذا وذاك يبدوالأدب الإسلامي كالينبوع لا ينضب، وكَنُورِ الشمس والقمر اللذين لا يكفان عن إرسال النور، وكالأرض الخصبة التي لا تقف عن بعث الحياة والجمال على سطح الأرض، وبين هذا وذاك يتدفق الأدب الإسلامي شعاعا ورديا ـ حينا ـ يغني للتناغم والتآلف والانسجام، ويَنْصَبُّ ـ حينا آخر ـ نارا تحرق الدنس والشوائب والصَّغار وأحيانا ثالثة تنفجر حمما تقذف الطواغيت وتلوي أعناق الذين يُعَبِّدُونَ الناس للناس من دون الله”(5).
فالإبداع الإسلامي إذن منضبط بحدود لا تعرف الحدود، إن صح هذا التعبير، فدائرة المباح واسعة جدا سَعَةَ الكون كله،قياسا على دائرة المحظور، لكنها النفس التي تنجذب بشغف شديد إلى هذه بقدر ما تنفر من تلك أوأشدّ، لذلك فإن الإسلام “لم يترك الإبداع مطلقا، ولم يُعْفِهِ من التوجيه والإرشاد، إن طاقة الإبداع في الإسلام تخضع كما يخضع له كل عمل إرادي، ولا يخرج عن هذا الإطار الكلي أبدا، شأنه في ذلك شأن الغرائز والقدرات وكل ما منحه الله للإنسان ليكون وسيلة للعمل الصالح”(6).
ومن ثم فإن نظرة الأديب المسلم إلى الكون والحياة وإلى ذاته وغيره على حدّ سواء، نظرة يحكمها التصور الإسلامي والالتزام العقائدي، ويحلل بصدق همسات النفس وأشواق الروح وتفاعل الفكر وتوهجات السموّ الإنساني وتدنيات اليأس والألم والحيرة وينتصر لقيم الخير والحق والجمال في الإطار الفني الناجح، وفي نسيج الصدق، ويجعل من الفن والالتزام كيانا واحدا لا انفصام فيه ولا تمزق ولا تضاد”(7).
د.بنعيسى بويوزان
——-
1- مدخل إلى الأدب الإسلامي، ص 19.
2- الأدب الإسلامي ضرورة، ص 87
3- مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي، ص 91.
4- نفسه، ص 84.
5- نفسه، ص 87.
6- الأدب الإسلامي ضرورة، ص 31.
7- آفاق الأدب الإسلامي، د. نجيب الكيلاني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1985 ص 47.