ثمة علاقة حميمية نمت بين وبين حزيمات القزبر والبقدونس… كنت أنتقي أجودها، فلا أغش ولا أضع الأعشاب وأرذلها بين أحشائها لتبدو كبيرة، كانت زميلاتي في السوق يهْزَأْن مني.. كنت أسبّح مع كل غصن منها وأعلم جيداً أن أناملي ستشهد علي أولي يوم لقاء الله.. فكثرت زبوناتي ونمت مبيعاتي.. كنت أستيقظ كل يوم قبل الفجر، أتوضأ وأصلي ركعتين لله وأدعو.. ثم أعد الفطور لأبنائي وأوقظهم.. لأخرج بعد صلاة الصبح مع زميلاتي إلى سوق الخضر بالجملة لشراء القزبر والبقدونس وأحيانا البقول… لأعود إلى السوق القريب مني، أفترش الأرض وأعرض سلعتي.
لم يكن الأمر سهلا، خاصة في الخريف والشتاء، حيث البرد القارس والمطر… كان ز وجي يعمل مُياوما في البناء.. ما لبث أن طرد حين سقط وأصيب بكسر… اشتدت الأزمة، علي أن أصرف على البيت ودراسة أبنائي وعلاج زوجي.. ما علي سوى الصبر والتوكل على اللهوحسن تدبير مصروفاتي دون أن أؤثر على رأسمالي البسيط… تعرفت على الفلاحات الصغيرات بالضواحي، فصرت أتعامل معهن مباشرة دون وساطة تجار الجملة، الذين كانوا يستغلون فقرنا جميعا ويتحكمون في الأثمان كما شاؤوا.. كثرت زبوناتي وزبائني، نمت تجارتي.. حصلت على دكان داخل السوق، دربت زوجي على حسن تسييره.. وبفضل الله دائما، بنيت منزلا لأرتاح من هم الكراء.. وجدتني تاجرة للجملة في السوق.. أقف في وجه المحتكرين وأذكرهم دائما بأن الاحتكار حرام.. ثار بعض التجار وضايقوني والتف آخرون حولي… مددت يد العون حتى لأولئك الذين ضايقوني وضيقوا علي، فنلت احترام الجميع، وصار شعارنا : التجارة خلق!.kk
وكان زوجي دائما هو مستشاري وعوني ورفيقي في الدرب، نتعاون في ادارة شؤون أسرتنا كما نتعاون في تجارتنا، ونعتبرها تقربا إلى الله عز وجل… فرغم أني تاجرة ناجحة، فالقوامة له”وهو دائما على رأسي!!” إنه جسري إلى الجنة!
سعدت، لأني أصبحت أخرج الزكاة عن مالي، أصرفها لأقاربي وجيراني المساكين، أفضل أن أجعلها رأسمالا لمشروعات صغيرة تدر الربح عليهم، كما أصرفها على اليتامى خاصة من أقاربي لمتابعة دراساتهم..
علمت أبنائي أن الحياة كفاح، وأن الكفاح عبادة… حياتنا بسيطة بلا بهرجة وإسراف…
سر نجاحي هو توكلي على الله أولا، واصراري على النجاح مهما كانت العواقب، والسؤال دائما عن حكم الشرع في كل ما يخص تجارتي، فلم أقرب الاحتكار والربا والغش… وكنت دوماً جادة في تعاملي وحازمة، أحرص على تستري وحجابي وصلاتي -لأن التجارة تفتن عن الصلاة- كما أني لم أنس واجباتي تجاه أبنائي وزوجي وبيتي..! وكانت الصحابيات التاجرات قدوتي، ومفخرتي أن الرسول قد مارس التجارة!.
أشغل معي عدداً لا بأس به من الجنسين، كما نشغل يدا عاملة أثناء مواسم القطاف في كل منطقة نشتري الغلة منها..
الجميل في تجربتي هذه العلاقات الطيبة مع العمال والزبائن.. وهذا الجمال الذي أبدعه الخالق في هذه المخلوقات : فواكه وخضر وأعشاب، مختلفة الأشكال والروائح والأذواق، مسخرة كلها للانسان، وحين أراها متوشحة بالطين، تذكرني بأصلي، إني من طين وسأظل كذلك، فأسبّح لربي حتى لا أتكبر أو أطغى بمالي!
والأجمل في تجربتنا -أنا وزوجي- أنها تفرض علينا الخروج باكراً إلى العمل، مما أذاقنا حلاوة صلاة القيام والناس نيام!