1ـ مقدمة وجدانية في شجون الطوارئ
مرة أخرى أزيغ عن وعد ضربته لك قارئي، وكنت بدأت معك حديثا في ورقتي الماضية، عن الأدب الباني والملتزم بقضايا الجماهير وأنا استعرض معك بعضا من رؤى الكاتب محمد برادة في روايته امرأة النسيان، ووعدتك في جزء قادم أن احدثك عن القراءة التاريخية الثانية التي هزت كياني وجعلتني أزداد يقينا بأن الكلمة المتوضئة مدفع لا يبقي ولا يذر أمام تناسل ألوان الذل والاستهوان للانسان العربي, والمسلم على وجه الخصوص. وفي السياق وجدت السؤال الكبير يداهمني ملحا: ترى هل من تجميع للطاقات الإبداعية ذات التوجه الاسلامي والانساني عموما في المجال الاسلامي الحق، للمساهمة في صنع الانسان الرباني المرتبط بالارض بناء وعمرانا وخلقا وابتكارا في كل الميادين والموصول بالسماء في استمداده من الخالق سبحانه زاد الصلاح والاصلاح قبل الاقلاع.
وآه يا قارئي كم نحتاج إلى صناعة عاجلة لطينات بشرية مخالفة لهذه التي تمشي على أديم الأرض مكبة على وجهها.
وأستحضر اللحظة عفو الخاطر في لجة الشجون وجها أدبيا تأليفيا تجميعيا كان ينحت رفقة حلقة من المبدعين مسارا أدبيا متفردا…. رجلا صلدا رقيقا , قويا لينا , شامخا هطال الدمعة، كلما داهمت الخطوب والرزايا هذه الأمة، وعلى حين غرة، غادر مرج الكلمة الطيبة، وبصيغة أخرى، خرج ولم يعد، ولم تـفلح كل الكلمات، كل الزيارات في إعادته الى حلقة البنائين في النادي الأدبي الذي كان يشرف على ورشه بالدار البيضاء، فمن يفلح في إعادة رجل شريف يدعى سعيد الغزاوي إلى وطن إيناع ورواج كل المحظورات باسم الحرية وحقوق الانسان، وطن يساق فيه الطيبون الغافلون إلى جرف هار باسم الحرب على التطرف….
هل يعلم الغائب الحاضر أن جراحاتنا وكدماتنا في حضن إخوة حسبناهم المرفأ والمرسى, بلا عد ولا حسابفهل نوقف خطواتنا المثخنة في اتجاه وطن الخبز والمحبة والايمان للجميع، هربا و تطهرا من رجس الإخوة والأخوات الخطائين؟.. ألم يقل عيسى عليه السلام : من كان بلا خطيئة فليرمها بحجر..
إن من كدمات ذوي القربى ما كان يمكن أن يقودنا إلى الجنون وإلى التيـه “مهابيل” في الشارع العام نقذف الناس بالحجارة، لكن لطف الله سبحانه وإيماننا بأن الابتلاء سنة ربانية وأن ما أصابنا ما كان ليخطئنا, وأن أمانة الاستخلاف من موقعنا كنحات للكلمة المؤمنة تفرض علينا وعلى كل الصالحين، المداومة في خانة المرابطة، وتلك سيرة الأنبياء والمرسلين، وكذاالمصلحين المقتفين خطاهم والسائرين على نهجهم،وسجلات إيذاء قومهم لهم أكثر من أن تحصى في هذه العجالة، فما استكانوا وما وهنوا لما أصابهم… فهل نحن أقوياء إلا ببعضنا، وهل نحن ضعفاء إلا في عزلاتنا، وهل تصنع الربيع إلا كل الاعشاب والنباتات والاشجار وخريرالسواقي وزقزقة الأطيار؟؟
2 ـ عبيد في المزاد العلني فهل من حجة للنكوص :
أجج كل مشاعر الاستنفار والاحتجاج، بل كل مشاعر اليتم والغبن بأعماقي أحد البرامج التي تم بثها بالتلفزة الوطنية حول محاربة داء السيدا. وأتوقف دون إبطاء عند بعض من تفاصيل التعاطي القاصر والاحتفالي في الاحاطة بكارثة إنسانية ستتجاوز حجم كارثة تسونامي وطنيا وعالميا، إن ظل التعاطي معهاهكذا سطحيا سينمائيا كما حدث في بلادنا، تعاطيا يستقطب نجوم الكليبات التي يعتمد أصحابها على لباس (ما نخبيش عليك) وعلى الميكرفون أكثر من الاعتماد على كفاءاتهم الفنية. وكذا الكوميديا “الباسلة ” التي لا يرقى خيالها الإبداعي إلا إلى الوقوف عند قُبلة، وهل تنقل العدوى أم لا، أو قفشات حول العازل الوقائي، مع الانتفاش فخرا أمام عدسات الكاميرا فرحا بالاجتراء على المسكوت عنه والقدرة على الحديث عن حميميات الغرف المغلقة بكل طلاقة، أو اعتماد الرواج الاعلامي لوجوه سينمائية محدودة التاريخ والجغرافية الابداعية للحديث عن الاسلام وعن حلاله وحرامه بكل الجسارة التي يحضرني في وصفها البيت الشعري الشهير للمتنبي :
ملأى السنابل تنحني رؤوسها
والفارغات رؤوسهن شوامخ
او استعراض وجوه وأسماء فكرية وعلمية ودينية وازنة، لها كل التقدير، لتطرح وجهات نظرها الغنية والمتنوعة ثم يتم القفز عليها ليركز البرنامج فقط على عقدتين اثنتين هما الخلاصة ومربط الفرس، وتتعلق الأولى بالتسامح, والثانية بالدين البراء من تهمة معاداة المصابين بالسيدا.
وينتاب المرء كل الأسى لتلك المبالغ المالية الضخمة المصروفة، وجهد المشرفين على ورش محاربة السيدا، جهدا لن يمنع من زحف أكبر لهذا الداء إن ظل التعاطي الفلكلوري مع مصائب البلد على ماهو عليه، تبسيطيا لكل عاهات المجتمع، تهويليا للمد الإسلامي المتجذر بنبض هذا الوطن، ومع احترامنا وتقديرنا لكل النيات الطيبة والقلوب الرحيمة التي كانت حاضرة داخل أو خارج البرنامج، فإن تصحيح التصورات والمقاربات أمر جد عاجل إجلالالله عز وجل وللرسالة النبوية التي غدت في برامجنا ولقاءاتنا وشهاداتنا وتعليقاتنا (كي شويش ديـال الهــم)، وبعبعا لا يستعان به إلا للحديث المستفيض عن التسامح والتعايش وحقوق الإنسان، ولا يجلس أصحابه في المجامع إياها إلا على استحياء ووجل وكأن على رؤوسهم الطير، متهيبين للمدافع الرشاشة التي تقصفهم من كل حدب وصوب، فلا تجد أكثر الإسلاميين في الحركة الإسلامية، من المدعويين إلا خائضين بكل ممنونية في أحاديث التبرؤ والإستبراء، سائلين صكوك الغفران، موزعين شهادات حسن السيرة على من غاب ومن حضر ..
نقول إن برامج من هذه العينة وبهذه المقاربات المناوشاتية، وبهذه المبالغ المالية العملاقة أشبه بإفراغ دلاء الماء في صهريج مثقوب، فاالجهد يبذل فيملءالدلاء وفي إفراغها في الصهريج لكن الثـقب يسفحها للضياع إلى مالا نهاية.
وبالنتيجة فلن نستطيع الحد من عاهات كهذه على الصعيد الإعلامي على سبيل المثال إلا بإشراك فعاليات دينية مختلفة التصورات المتكاملة، لا بدعوات عزلاء لرموز دينيين معتبرين لايتوخى أحيانا من استضافتهم إلا إضفاء المصداقية على خطابات غريبة عن نبض المواطنين شكلا ومضمونا..
نقول إشراك فعاليات دينية، مقدرحضورها، مكرم وحر رأيها، كسائر المدعويين في أفق تشريح ظاهرة استفراغ ممنهج للمواطن من كل الكوامن الروحية بقصفه بالخطابات المنحلة والداعرة والمادية المتطرفة، الداعية إلى عبادة الدنيا وشهواتها من تهافت على المال وعري وعلاقات محرمة واستعلان نسائي بشرب الخمور والتدخين بكل أوضاع المباهاة والإجتراء.
ويجب أن يكون النص القرءاني المقدس كالنص السوسيولوجي والسياسي والتاريخي إلخ.. حاضرا وبقوة وفوق رؤوس الجميع لعرض حكمة التدبير الرباني الذي يربط بين القرى وانحرافها عن أمر ربها وإصابتها بالأمراض الفتاكة التي لم تكن في أمم من قبلها، دون الإستعمال القاصر والعدواني للنص المقدس و بالتالي اعتبار كل من أصابتهم السيدا أعداء للدين وسفلة ويستحقون ما آلــو اإليه. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الأسوة الحسنة فقد نهى نهيا تاما عن الشماتة بالمسلم فيعافيه الله ويبتلي الشامت، فقط يتعين ربط الأسباب بمسبباتها الربانية التدبير الحكيم، وفسح المجال دون مقص وأضواء حمراء لتلك الفعاليات الدينية لإحياء القوى الروحية لدى المواطن بتجسير العلاقة بينه وبين خالقـه وتقوية يقينه بالله سبحانه فهوالمغني والمفقر والمعز والمذل، بيده الملك وهوعلى كل شيئ قدير..
والنتيجة، فلا مسوغ في برامج كبرنامج محاربة السيدا، لتعليق كل انحرافاتنا على الفقر وتكريس مقولة أن الفقر يقود آليا إلى الدعارة وإلى العلاقات الحرام للخروج من دائرة الفقر وبالتالي الإصابة الضرورية بداء السيدا، وإلا لكانت الصحابيات والتابعيات ذوات سوابق في المواخير وهن اللواتي اخترن الله ورسوله في وضع اجتماعي مذقع أين منه وضعياتنا المريحة و إن بشكل نسبي..
3 ـ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء
بعيدا عن الشهادة القاسية التي عرضها برنامج محاربة السيدا لتلك الفتاة المتحجبة التي دعت إلى عزل المصابين بهذه الآفة (وما كل متحجبة محيطة بشرع الله سبحانه في أبعاده وتصوراته الحكيمة) فإن شمولية الدين الإسلامي التي قضت بإقامة الحد على مرتكبي الزنا، وضعت لتنفيذ الأحكام، شروطا جد عسيرة، قد تصل حد الإستحالة وما أقام رسول الله الحد في الزناة إلا في حالات محدودة جدا، وقبل كل ذلك أقام مجتمع العدل والإنصاف و الكرامة لجميع المواطنين بما فيهم أهل الديانات الأخرى، حتى لاتكون الحاجة دافعة للإنحراف والأهم منذلك أنه بنى نفسيات التقوى التي تجوع وتعرى ولا تأكل بجسدها،أوتشعلها الرغبة البيولوجية في الوصل فلا تسلك غير سبيل الحلال {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله}، وكان سبحانه وتعالى الغفور الرحيم الجواد، عظيما في إدماج تلك العينة من النساء المسترققات في حياة الصلاح بعفوه عنهن إذ يكرههن أسيادهن على البغاء، اغتناء بعرق أجسادهن المستباحة، قال سبحانه وتعالى : {ولاتكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}..
وارتباطا بالسياق المالي، فإن الأمراض الاقتصادية الناتجة عن جشع المخربين من المسؤولين الاقتصاديين والتي تدفع المحتاجين من الذين يحيون وضعيات القهر والبؤس والكدح، فيسول لهم الشيطان الخروج من بؤسهم بسلوك مدارج المال الحرام السهل هي من يجب أن يحظى أصحابها بحصة الأسد من البرامج التحليلية بل والتجريمية، ومستضعفاتهم من النساء هن بلا شك كما ضحية إكراه وضغط قاهر، وإن بشكل أكثرحضارية. وإذا لم يكن هناك من مبررلسلوكهن سبيل المعصية، فلا مبررأيضا لإخفاء الرأس في الرمال إلى مالانهاية وترك الجناة الحقيقيين في سراح جميل يعيثون إفسادا في البلاد والعباد كما حصل في حالة الملعون ” فيليب السرفاتي” وإسرافه في إفساد بنات الناس، لقاء إغراء لاسبيل إلى مقاومته في حالة فتيات جميلات يعشن فتنة المسلسلات المكسيكية والبرازيلية وخواء دينيا في ظل تغييب مؤسسة الدين ووصف خطابها بالديناصورية، واستفحال أوضاع الفقر والحاجة، إنه إغراء الزواج والهجرة إلى الخارج..
وإنها لكارثة تتهدد نساءنا ومؤسسة الأسرة والمرأة على الخصوص، ومن أراد رسما تفصيليا بأعداد نسائنا في الحانات والفنادق ودور الخلاعة فليقرأ فقط جرائدنا الوطنية المستقلة، فقد أفاضت في الحديث عن كارثة ضياع بناتنا بالرقم والصورة، وتنتشر في مدننا الكبرى لحظة كتابة هذه السطور قرى الأمهات العازبات والأطفال المشردين بشكل مضطرد، أفليس فينا من راشدين في صفوف الحركة المدنية، رجالا ونساء يدعون إلى استئصال الآفة من الجذر. ألا حق لنسائنا في الحياة الكريمة المحصنة العفيفة وفي حضن بيوت يعرفن فيها الإستقرار والحب والحنان، ألا حق لهن في تخليصهن من جلادي العتمة الذين يسترزقون بماء شبابهن حد إحالتهن إلى مجرد كائنات مهدمة بإيقاع أشد القصاص بهم؟؟؟..
هل نكون أرحم بالمفسدين لنسائنا من الله سبحانه وتعالى الذي قال فيهم : {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يُقَتَّلُوا أو يصلَّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}.. ومارأيناه في البرنامج الآخر الخاص بالمفسد الكبير السرفاتي الذي عاث فضيحة في أعراضنسائنا ثم رحل آمنا خارج البلاد في حين تم إيداع نسائنا في معازل قاسية لن تنفع في تأهيلهن التأهيل الرباني الذي يقوي مناعتهن في وجه سماسرة اللحم النسائي، كان مؤلما حقا، فأينها جمعيات الدفاع عن النساء ضد العنف؟
وختاما ليس هناك أروع ولا أكثر عدلا وإنتصافا، من حديث رسول الله في واقعة المرأة المخزومية السارقة وهي من علية القوم، لمن أراد أن يتدبر ويتفكر.
فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله فكلمه أسامة فقال رسول الله : >أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ ثم قام فاختطب ثم قال : إنما هلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم شريف تركوه، وإذا سرق فيهم ضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها<.
فهل لأَمَة الله فوزية حجبي من تعقيب بعد هذا الحديث الشريف الجامع المانع؟؟..
وعاش من عرف قدره.