بعض الظواهر الطارئة التي تشغل بال الشارع المغربي مدة من الزمن قد تخلف من بين ماتخلفه نوادر أقرب إلى النكتة، مما يدل على غرابة الظاهرة أو غموضها أو تفردها ومخالفتها للمألوف.. ولعل عملية المغادرة الطوعية -التي دخلت التلفزة من باب الإشهار والترويج لها- من الظواهر التي خلفت إشاعات كان بعضها غريبا، وحار الكثيرون في تبريره وسبر دوافعه، وبعضهم سار بهم الشك والتأويل مسارا بعيدا عندما استبعدوا معطياته، فأحجموا عن تصديق عملية المغادرة والانخراط فيها.
واختلف الأمر كثيرا في قطاع التعليم، فقد أقبل عليها المدرسون، خصوصا مُدرسو الثانوي الإعدادي والتأهيلي إقبالا شديدا، مجموعة لابأس بها لم تكن دوافعها مادية إطلاقا ولم تحسبها (بالفرنك) كما حسبها بعض من خرجوا طواعية بضربة العمر من هنا.. ثم دخلوا طواعية إلى ضربة أخرى من هناك.. تلك المجموعة من المدرسين كان لسان حالهم يقول (الباب يالْحْبَابْ) وأحبابُهم المسؤولون لا يفهمون لسان الحال وهم في برجهم العاجي البعيد.. أولئك المدرسون رأوا في المغادرة الطوعية فرَجاً ربانيا يُخرجهم من ورطة التعليم؛ ولقد أصبح التعليم ورطة لا يصح في الألفية الثالثة أن يتورط فيها لبيبٌٌ، بعد أن كان قبل عشرين سنة ونيِّف نزهة الغفلاء ومرتادَ الحكماء وأشرف ما يُمكن أن يختار الحصيف من المهن.
دخلنا التعليم شبابا فوجدنا في الأجيال التي درّسناها انضباطا وبراءة واستقامةً وشغفا بالعلم واحتراما للمعلمين، ووجدنا القَيِّمِين عليه من المربين الأكفاء الذين لا تكسر شوكتهم، ووجدنا المناهج جزءا من هُويتنا المغربية الإسلامية طافحةً بالأصالة، ووجدنا البرامج نسيجا من كياننا لم ينعَقْ فيها ناعق العولمة المقيتة، ولم ينفخ فيها شيطان الهيمنة البغيضة ولم يتسلط عليها سوْط الغطرسة العالمية.. وألفينا النوايا مُخْلصَة لتكوين الأبناء تكوينا مستقيما بعيدا عن الشعارات الجوفاء المفرغة من محتواها المهدرة للمال العام المطأطئة للنظام العالمي الجديد… كان الصف لا يتعدى خمسة وثلاثين تلميذا وكانت حصص اللغة العربية ستّاً يقدم خلالها المدرس ندْبَ روحه.. ولم يتوفر لدى المتعلم ما يستنزف وقته من نقالِ وأنترنيت ورسائل سريعة وألعاب إلكترونية ولم تبلغ بنا النكسات الاجتماعية ما بلغْته الآن من حوادث المخدرات والاغتصاب والميوعة وضرب القيم عرض الحائض والاستهزاء بالدين والتطاول على رموز الأمة وكأن آباء الأمس كانوا أقدر على ضبط البنين والبنات وتوجيههم لأنهم فهموا حرية الإنسان وكرامته من قرآنهم لا من المواثيق الدولية.
نعم.. لم نسمع من قبلُ عن تلميذ يدخل الصف ثمِلاً.. ولم نكن نرى التلميذة الملطخة وجهها بالأصباغ والمساحيق المرتدية وزرة من ربع متر من الثوب حتى إذا غادرت باب المؤسسة خلعت الوزرة العبء وتجردت كممثلة وافدة من هوليود… لم نكن نجد التلاميذ يكتبون بالعامية أو باللهجة المصرية.. ثم قال العقلاء إنها الجودة في التعليم بعد أن نقصوا الحصص وشحنوا الأقسام وأرهقوا المدرس واحتجزوا من شاؤوا وأطلقوا سراح من شاؤوا دون بصيرة أو رؤية مُحكمة..
لهذه الأسباب تقدم الكثيرون منا بطلب المغادرة الطوعية وهم يتَسَمَّعُون نوادره ويجهلون أبعاده مستجيرين من الرمضاء بالنار.
الغريبُ أن بعض من وقّع رؤساؤهم طلباتهم بالرفض وجدوا القبول بقدرة قادر، وبعضُ من وُقعتْ طلباتهم بالقبول وجدوا عند المتاريس الرفض، بعضهم ادعى أنّ الذي لا (مِغْرَفَةَ) له يرسُبُ في قعر القِدر، وبعض المدرسين المرضى أرفقوا طلباتِهم بالشواهد الطبية فعادوا بخفي حُنين.
لا أخفيكم أن الكثيرين يعيشون في قمة الإحباط وهُمْ يُسْتَبْقَوْن كرها وحالهم أشبه بحال ناشز يسترجعها زوجُها بقوة القانون ومثل هذه الزوجة لا تطبخ ولا تكنس ولا تَسُرُّ.. ولكِنّا على الاضطهاد مازلنا نُخلِصُ النيةَ لله ونحترق كالشموع وعسى المسؤولون يصححون ظروف البقاءِ الكُرهي ويرفعون عنا الأوزار حتى لا يحي مدرس خصيما لهم يوم القيامة.
أخيرا… لستُ أدري لماذا كنتُ أذكُرُ طوال فترةِ كتابة هذا المقال واقعة الهرة التي حدثنا عنها رسول الله تلك الهرة التي دخلت النار امرأةٌ فيها لا هي أطعمتها وسقَتْها ولا هي أطلقتها تأكل من خشَاشِ الأرض.
ذة.أمينة المريني