لعلنا بهذه الأمسية التواصلية مع الجمعيات والهيآت المهتمة بشؤون المرأة والأسرة نسعى إلى تجاوز الفردية الثقافية والاجتماعية إلى رحاب التشاركية والجماعية بالاتجاه نحو الفكر الثقافي الجماعي، أو الفقه والاجتهاد الجماعي، وذلك حتى تتنزل النصوص بشكل سليم على واقع مفهوم من عدة زوايا وتخصصات، وذلك لتحقيق قفزة نوعية في مجال الفقه بالدين، والفقه بالمقاصد والمآلات، والفقه بالسنن الكونية والدينية والاجتماعية، ونحن هنا نمد أيدينا إلى الجمعيات للبحث بجدية وحزم في الملفات المشتركة، التي تقصم ظهر الأمة، وتقوض بنيانها، بروح هذا الدين الذي إنما يستمد بقاءه بقدرته على النمو الداخلي بما فيه من أصول وقواعد، تؤهله للتجديد ولمسايرة كل جديد من غير أن يفقد شيئا من ذاتيته وخصوصياته ونحن بهذا التشارك نسعى إلى تحقيق الوحدة التي لا تلغي الاختلاف، وإنما تنظمه وتقننه، هذه الوحدة التي أضحت اليوم مطلبا شرعيا وخياراً استراتيجيا يتوافق ومصلحة أمتنا حتى لا نذوب في عالم لا يعترف بالتشرذمات والأقليات ونسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة يتم فيها التفاهم والتنسيق بين الجمعيات من جهة وبينهم ككل وبين مؤسسة العلماء من جهة أخرى، هذه المؤسسة التي ينبغي أن تتظافر فيها جهود العلماء والعالمات في هذا المجال سعيا نحو الوحدة في الفتوى والإرشاد والتوجيه والتوعية قال تعالى : {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذُوه وراء ظُهورِهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}(آل عمران : 187)، وتشتد مسؤولية العلماء وتتقوى كلما انحسر وتراجع الوعي الإسلامي العام في المجتمع بأكمله ، ولا تنحصر مهمة العلماء والعالمات في إصدار الفتاوى بل تتعدى ذلك إلى غرس العقيدة في النفوس، وحمل الناس عليها، وتصحيح المفاهيم.
فلماذا إذا موضوع دور المرأة العالمة في الجمعيات النسائية؟
إذا كان غياب العلماء عن المجالات الحيوية في البلاد، قد أثر سلبا عليها، إذ صارت تمضي على غير هدى وتخبط خبط عشواء في كثير من القضايا الحساسة والحاسمة، فإن غياب جمعيات ومنتديات خاصة بالعالمات، جعلت أغلب الجمعيات النسائية تنأى في طروحاتها عن البعد الحقيقي للدين، لأنها أصلا لا تفقهه في كثير من الأحكام، وإن علمت بعض الأحكام، فهي لا تتدبر أسرارها ومقاصدها، وهي في ذلك مثل سائر الناس، الذين يحتاجون إلى العلماء والعالمات ليضعوهم على الطريق الصحيح في كل ما يعرض لهم من الإشكالات والمضايق التي يطرحها العصر بما استجد فيه من أمور أتت من تأثرنا بما حولنا وبمن حولنا في دنيا القوانين المحدثة.
فالعالم كما كان حاضراً في ميادين الحياة كلها مشاركا بآرائه، وبتوجيهاته، مهما حملت معها من نقد أو لوم، فنحن اليوم أشد ما نكون حاجة إلى آرائه وتوجيهاته خاصة مع طروء قضايا جديدة تستدعي الاستشارة مع السادة العلماء. وإذا كان الرسول الأكرم قد قال : >طلب العلم فريضة على كل مسلم< وفي رواية : >ومسلمة< وإن لم تذكر “مسلمة” فالكلمة داخلة في الحديث فالمعلوم من الدين بالضرورة واجب تعلمه على كل جمعية بجميع أفرادها رؤساء ومرؤوسين ولا خيار أمامها في ذلك، لأنها قد تحملت مسؤولية جسيمة، في تربية هذا الإنسان. والعلم لم يكن مقتصرا على الرجال بل كان يشاركهم النساء في تحمله وأدائه، وفي شهادة ابن عساكر أن أية امرأة محدثة لم تضعف من حيث الحفظ والضبط أو العدالة.
فلا عجب أن نجد العلماء يعدلونها فهذا يحيى بن معين يقول في عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية : ثقة حجة، وهذا الزهري يشهد لها بقوله : فأتيتها فوجدتها بحرا لا ينزف، وقد كان لها اثنان وسبعون حديثا ترويها عن عائشة في الكتب الستة.
ولا عجب أن نجد الزوجين معا: الزوج والزوجة من العلماء منذ جيل الصحابة كعبد الله بن عمر وزوجته صفية بنت أبي عبيد بن مسعود. وأنس بن مالك وزوجته زينب بنت نبيط وأن نجد بنات التابعين وتابعيهم من العالمات : كبنت سعيد بن المسيب وحفصة بنت ابن سيرين وفاطمة بنت الإمام مالك التي كانت تحفظ الموطأ كاملا، بل كانت هناك الأمهات العالمات كأم الحسن البصري مولاة أم سلمة التي سماها “خيرة” انظر كتاب السنة النبوي في القرن السادس الهجري” للدكتور محمد ابراهيم الديك، فقد كانت هناك نساء عالمات لا يشق لهن غبار في خدمة حديث الرسول في القرون الثلاثة الأولى وهن من الصحابيات ومن التابعيات ومن طبقة أواسط التابعيات ومن طبقات القرن الثالث الهجري.
بل كان هناك من العالمات بعد هذا القرن الكثيرات، وكن شيخات في الحديث لعدد من الرجال، وأثبت ذلك الكثير من العلماء في مصنفاتهم، فهذا ابن عساكر يذكر عدد من تتلمذ عليهم منالنساء، وفي الأندلس كانت المرأة تتصدر مجالس الإقراء، وحولها الكثيرون من العلماء يستمعون، ولم نكن نسمع هذا الذي عاد اليوم إلى الساحة مما زاد في الطين بلة وفسادا، فاستغل الأعداء الفرصة، وصاروا يشنعون على الإسلام في موقفه من قضايا المرأة، حتى شغلنا الموضوع ردحا طويلا من الزمن، ونحن نجيب وندافع فيما الأصل فيه واضح ولا يحتاج إلى طول كلام، وجهد وبيان، فكيف كان موقف العلماء عند تقييمهم لجهود العالمات منذ الفترة الأولى : أي عهد الصحابة، فقد ذكر البلا ذري في أنساب الأشراف ص 416 كلام الأحنف ابن قيس في عائشة أم المؤمنين وفصاحتها الذي قال : سمعت خطبة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والخلفاء هلم جرا إلى يوم هذا، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن من في عائشة. وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء 184/2 كلام الشعبي في عائشة الذي قال “فهي زوجة نبي وما ظنكم بأدب النبوة” فلا عجب بعد ذلك كله أن تكون عائشة أفقه النساء، لذلك شاع علمها وانتشر فضلها في الأقاليم، وفاقت غيرها في الفرائض والسنن والفقه، كما امتازت بفصاحة اللسان وبلاغة المقال، إذا خطبت ملكت على الناس مسامعهم، وإذا تكلمت أخذت بمجامع قلوبهم”. انظر دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى لآمال قرداش بنت الحسين، وامتازت عائشة رضي الله عنها بالفقه حتى قيل : إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها، فتح الباري لابن حجر 17/7 ولهذا نجد الإمام الزهري يجزم أن عائشة أفقه نساء الأمة على الإطلاق. سير أعلام النبلاء للذهبي 135/2.
أبعد هذا العز والشموخ في العلم الشرعي الذي يتصدره العلم بثاني مصادر التشريع الإسلامي : الحديث النبوي الشريف يصير حالنا إلى هذا الذل والهوان، حيث تثار مسائل غريبة عن صوت المرأة، هل يسمع أو هو عورة، مثلها تماما، فيحجب عناعلمها، ويبقى الرجال يتصدرون مواقع العلم الشرعي، أكفاءا كانوا أم دون ذلك، محجرين عن المرأة المشاركة في علوم الشريعة تأثيرا وتوجيها ونقدا ونشرا وتعليما، ويصبح أمر النساء إلى جمعيات شتى، تهتم بكل شيء يخطر ببالك، إلا الشأن الديني، الذي أصبح اليوم في أمس الحاجة إلى نساء عالمات بمعنى الكلمة للعلم الشرعي، قادرات على مواجهة تحديات المرحلة، عالمات بواقع الحياة كلها، مشاركات فيه بالتأثير والتوجيه نحو ديننا العظيم الذي يقيض الله له من ينشره بعلم ويقين من الدعاة المخلصين رجالا كانوا أو نساءا.
إن دور المرأة العالمة في الجمعيات النسائية لا يختلف عن دور العالم في نفس الجمعيات، فهما معا يتعاونان في هذا المجال الحيوي الهام في تربية الإنسان وتأهيله لأداء دوره في حمل هذه الأمانة الملقاة على عاتقه والتي تتوزع بين فضاءات متعددة من مؤسسات وهيآت تربوية من مساجد ودور القرآن ومدارسوثانويات وجامعات تسهم فيها بمقترحات في إعداد البرامج ومراقبتها وتوجيهها بما يخدم مصالح الفئة المستهدفة وما يرسخ فيها الإيمان وما يجيب عن تساؤلاتها وما يزيل عنها أسباب الحيرة والاضطراب، وبين مؤسسات ثقافية وإعلامية تشاركها في إعداد البرنامج تأطيرا وتنظيرا بما يستجيب وقيم الدين ومبادئه العليا، وبين مؤسسات خيرية تشاركها في حل مشكلات تلك الفئات المستضعفة بتقديم المساعدات المادية والعينية ومراقبتها ومحاسبة القائمين عليها، ودعم المشاريع التي تيسر استمرارية المساعدة في تكاليف الزواج وما بعد الزواج، ومساعدة الضحايا من أبناء الأسر المتفككة.
وبين مؤسسات صحية تقوم فيها بتوضيح جانب الأمانة في أداء الشهادات وذلك لضمان الحد من تلك الأمراض المعدية، والمساعدة في إعداد برامج الصحة النفسية التي يعد الدين أهم الضمانات فيها.
وبين مؤسسات الإرشاد والسماع تساعدها في التأطير الميداني الذي يدعم الاستقرار وذلك من خلال برامج تنمي المهارات لدى الأطراف المتنازعة الكفيلة بالصلح.
دة.صباح بوعياد