يُروى أن هِندَ بنت عُتبةَ رضي الله عنها عندما تلا عليها الرسول بُنودَ المبايعة، وجاء فيها : >ولا يَزْنِينَ< قالت بتعجُّب سريع : >أوَتَزْنِي الحُرَّةُ يا رسُول الله؟!<.
سؤال استِغْرابِيٌّ تعجُّبِيٌّ يدل على أن مجردَ إشاعة الفاحشة بين الحرائر دونه الموتُ الزُّؤام. ألَمْ يكُنْ الخوْفُ من جَلب العار أحَد أسباب الإقدام على وأد البنات لدى بعض القبائل؟! وألَمْ يَكُن التغزُّل ببعْض البنات سبباً في حِرْمان الشاعر المتعزِّل من التزوج بمن تغزَّل فيها؟! لأنه شَهَّرَ بها، وقال فيها شعراً جعلها هي وعائلتها مُضغة الأفواه، وما قصة جميل بُثينة، وقيس وليلى، بغائبة عن الأذهان!!
فلماذا كان هذا التشدُّد المُفرط أحيانا؟! كانتْ هذه المبالغة لأن المرأة -في عُرف الأسرة والرجل والمرأة والوضع الإنساني الشريف- هي العِرْضُ، فإذا كرُمَتْ كرُم العِرض، وإذا أهينتْ أو مُستْ أو خُدِشَتْ خُدِش العِرْضُ والشرف كله، شرف الأسرة، وأحيانا شرف القبيلة.
وأكبر إهانة للمرْأة العربية هو سبْيُها، فتلك إهانة لا يغسلها إلا تجريد الحملات تِلو الحملات، ولو اقتضى ذلك حروب سنوات، أما زِنا الحُرّة بإرَادتها فذلك غَيْرُ مُتصوَّرٍ في ذِهن الرّجل أو المرأة، لأن ذلك يعْنى بكل بساطة موْتها المعنوي وإن بقيت على قيْد الحياة، أمّا واقعيا فإن زِناها يعني العار الذي لا يغْسِله موْتُها، لأنه عارٌ لا يُدْفَنُ بدفْنها، بل سيبقى لاصِقاً بالأسرة ولو دُفِنَتْ صاحبتُه.
إذَن فلا تعجَّب من تعجُّب هند بنت عتبة لأنها تعلم أن الزنا ليسَ معروفاً بين الحرائر العربيات، ولكنه القُرآن المعجِز الذي يؤسس للحاضر المشاهَد، والمستقبل المغيّب، فالله عز وجل يعْلَم أنه سيأتي زمان تُوضع فيه وثيقة تُسمى بوثيقة “حقوق الإنسان” تحرِّره ظاهريا وشكليا، وتستعْبدهحقيقيا، وهو عصرنا الذي قضى على الرّق الشكلي، وجاء الاسترقاق الجماعي، الاسترقاقُ للشعوب والأمم، ورَهْنُ مصيرها وكيانها بالأموال والديون المثقلة بالفوائد المكدّسة، حتى تصبح الشعوب حُرّة في الظاهر، ولكنها لا تملك شيئا من أرضها وفرواتها وأمْرِها الاقتصادي والسياسي في الحقيقة والجوهر. إنه استرقاق للإنسان بكل مقوماته وكياناته وطموحاته وآماله، فهو اغتيالٌ سمَّاه اللاعبون الكبار تحريراً وتقرير مصير.
ومن هذ القبيل خِداعُ المرأة بـ”الحريّة” المزيّفة التي تعْني في الحقيقة “اغْتِيال” عِرْضها، وكرامتها، وإنسانيتها، بأبخس الأثمان، فعَرّوها تعريةً فاضحةً وقحة بشعة، ورقَّصوها ترقيصاً خليعاً مثيراً لكل الغرائز والشهوات البهيمية، وخدّروها وأسْكروها ووحّشوها حتى أصبحت لا تعرف لجسدها قيمة إلا قيمة السلعة المتاجَر بها في أسواق النخاسة الدنيئة، فهي لا تستفيق من هذا السكر إلا يومتصحو على مَرَضٍ مُدَمِّرٍ، أو نبْذٍ من المجتمع قاتل، أو انطماسٍ سريع لمعَالِم جمال فتّانٍ ذوَى وأظلم بالاستهلاك الخبيث في دنيا التمرُّد على الذات، والتمرُّد على الفطرة السليمة، والتمرد على الله تعالى الذي خلق الفطرة فسواها وفْق المصلحة الإنسانية الحقيقية الآنية والمستقبلية.
وهي المصلحة الكامنة في حفظ الأنْسَال والأعْراض، ولا وسيلة أضْمن لتحقيق هذه الغاية من العِفة التي شدَّد عليها الإسلام تشديداً كبيراً إلى درجة أنه لم يفتح أيَّ نافذة ولو صغيرة للسماح بانتهاك الأعراض وإفساد الأنسال، قال تعالى : {ولْيَسْتَعْفِفِ الذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(النور)، وقال : >مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُم البَاءَةَ فلْيَتَزَوّج… ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ< فلا شيء غير الزواج أو العفة المستعان عليها بالصيام والصبر والعلم ومختلف أنواع النشاط الْبَاني والـمُنيم للغريزة إلى حين توفير الأسباب الشرعية المُرضية، والمريحة.
ولم يكتف الإسلام بالمَنْع النظري بل زوَّد المسلمين، بالأمثلة العملية الحية، من ذلك :
1) الشّاب الجميل نبي الله يوسف عليه السلام الذي فتنت به امرأة العزيز وقالت له {هِيتَ لَكَ، قَالَ : معَاذَ اللَّه إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوَاي إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُون}(يوسف).
2) الرجلُ الذي دعتْه امرأة ذاتُ منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله، فكان من الفائزين بظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
3) الرجل الذي كان يحب ابنة عمه حبا جارفا، ولكنها لتقواها لم تمكِّنْه من نفسها حتى اضطرتها ظروف الفقر والحاجة، فمكنتْه من نفسها اضطراراً، ولكنها لخوفها من الله تعالى قالت له : اتق الله، فهزَمَتْه هذه الكلمة، وأحْيَتْ ضميرَهُ بالإيمان، فلم يمسَّها وترك لها المال الذي تحتاجه، فكانت النتيجة : أن الله أنجاه وأصحابه في الغار من الهلاك.
4) ويشبه هذا قصة كِفْلِ بني اسرائيل الذي عندما تمكَّن من امرأة بكتْ، فقال لها: أأكْرَهْتُكِ على هذا؟! قالت : لا، ولكن هذا عَملٌ لمْ أعْمَلْهُ قطُّ، وإنما حملني عليه الحاجة، فقمَعَ الله شهوته بتقواها، فقام عنها وترك لها الدنانير، ثم قال : والله لا يعصِي الله الكفلُ أبداً، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه، قد غفر الله للكِفْل.(مسند أحمد).
وقد زخرت المجتمعات الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي بقصص العفة والسمو الأخلاقي للرجال والنساء معا، سَيْراً على المنهج الإسلامي في التعامُل النظيف المؤصل، ومن سقط في الفاحشة لأعذار قاهرة، فالعلاج في ستْر من تستَّرَ، حتى تحاصَر الفاحشة، وعقاب من جاهر، حتى تُردَع الفاحشة وتُقمع.
وقد كان عمر ] حريصاً على ستر عورات المسلمات وصَوْن عفَّتهن :
أ- حدَّثه أحدُ الناس بأن ابنتَه أصابَت حَدّاً من حدود الله، فأخذت الشفرة لتذبح نفسها، فأدْركُوها وقَدْ قطعَتْ بعض أودَاجِها -عروقها- فداوَوْها حتى برئتْ، ثم تابتْ توبةً حسنة، وسأل أبوها عُمر ابن الخطاب -بعدما خطبها بعض الأقوام- أيُخْبِرُهم بالذي كان؟! فقال عمر : >أَفَتْعْمِدُ إلَى ما سَتَرهُ اللَّهُ فتُبْدِيهِ؟! واللَّهِ لَئِنْ أخْبَرْتَ بِشَأْنِها أحداً من النّاسِ لأَجْعَلَنَّك نَكَالاً لأهْلِ الأمْصَارِ، أنْكِحْهَا نِكَاحَ العَفِيفة المُسْلِمة<.
ب- ومن أشهر القصص التي تدل على تفهُّم عُمر لحقوق الإنسان وفي طليعتها الرغبات الغريزية، ما رُوي أنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:
ألا طال هذا الليلُ واسودَّ جانبه
وأرقـــنــى ألا حـبــيب ألاعِـــبُــه
فــوالله لــولا اللَّـهُ، لا شَيْءَ غيره
لزُعْزِع من هذا السرير جوانبُهْ
مخـافـةَ ربّــي والحيــاءُ يكـفُّــني
وإكـــرامُ بَعْلي أن تُنَــال مراكبُهْ
فاستدعاها عمر، وعندما عرف أن زوجها في بعثة جهادية، شرع للمجاهدين غيبة أربعة أشهر فقط ثم يرجعون، ويخلفهم غيرُهم حتى لا تضيع حقوق الرجال والنساء الطبيعية -منهج عمر 417-.
بهذا اكتسب المسلمون قوةً ذاتية منحتْهم إياها العقيدةُ التي لا تعرف غير الله تعالى قوة وسنداً، والاخلاقُ التي لا تعرف غيْرَ العِفَّة منهجاً وسبيلا.
إن المسخ الإنساني شهوةً وغريزة ومُسافَدَةً لمْ يُعرف إلا على عَهْدِ مزْدَكٍ الذي نادى بفلسفة جَعْلِ المرأة والأمْوال شيئا مباحاً ومُشاعاً للجميع بدون استئثار، ولكن مُلُوك الفرس رَدُّوا الأمُورَ إلى نصابها بعد حروب وتمحيصاتٍ في معرفة الأنساب التي اختلطت كما تختلط أنساب الحيوان.
إن الهبوط الأخلاقي المستتر والمتغاضَى عنه والمسْتحْيى منه مُتوقَّع، وحذَّرنا منه الرسول ، ولكن الهبوط إلى درجة المناداة على العُهْرِ والسَّفَالة والخِسَّة بالصوتِ العاليالجهير في الوقاحة، على موْجة فضائية ببلد إسلامي، يراها القاصي والداني، والشرق والغرب، ويسمعها الملايين، ومِمَّن يصْدر النداءُ العُهري؟! من امرأة -مثقفة يا حسرة- وفي حفل عمومي فيه الأزواج والزوجات، والأولاد والبنات، وفيه الأسر والأقارب، وفيه كبارُ القوم من رجال السياسة والدين، فتقول بفصاحة، لا تحسد عليها >إنَّ السُّياحَ مُبَرَّأُونَ مِن نَقْلِ مَرَضِ السِّيدا، فَهُمْ يَأْتُونَ بعَوَازِلِهِمْ الطِّبِّيَّةِ…< والأغرب من ذلك مقابلة هذا الهراء بالتصفيق ولا صفير ولا نكير.
< هل معنى هذا أن بلدنا الجميل لم يبق فيه ما يُغري بالسياحة غير السياحة الجنسية؟! ولم يبق فيه ما يُعرض إلا نساؤه؟!
< وهل معنى هذا أن السياحة الجنسية أصبحت مشروعة في دين الحداثة والعولمة؟!
< وهل معنى هذا أن الفاحشة بالعازل الطبي مأذون فيها شرعا؟! سواء بين المسلمين أو بَيْن المسلمات والأجانب؟!
< هل معنى هذا أن عِرْض نسائنا أصبح سلعة يُعرض في المزاد العلني للبيع؟! ولماذا؟! لترميم الميزانيات المفلسة؟!
< وإلاّ، فلماذا يأتي السّياح بالعوازل الطبية؟! أللِتَّعَبُّد في محراب المساجد؟! أم للانغماس في مستنقع الغواني والولائد؟!
< وهل استعمال العوازل الطبية يحفظها من عقاب الله تعالى؟! فهل عقاب الله تعالى محصور في الأمراض والأوجاع؟! أين الطوفان؟ أين الزلازل؟ أين الأعاصير؟! أين الظلم؟! أين الفرقة والشقاق؟! أين العقوق؟! أين الخيانة المتعددة الأنواع؟! أين المسخ الأخلاقي المُفقد للثقة بين النساء والرجال؟! والقادة والمقودين؟! والساسة والسياسيين؟! فهل العوازل الطبية تضمَن لنا خِداع الله تعالى الذي لم يحرِّم الفاحشة عملاً وممارسةً فقط، ولكنه حرمها فكراً ونية واعتقادا؟!.
إن ما وقع حذَّرنا منه الرسول بصريح العبارة، حيث قال : >من أشراط الساعة أن يُرفَع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون للخمسين امرأة القيم الواحد<(البخاري والترمذي) وقال لنا : >في هذه الأمة خَسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين : يا رسول الله ومتى ذاك؟! قال : إذا ظهرت القينات والمعازف وشُربت الخمور<(الترمذي).
فهل هي ساعة كل المسلمين والمسلمات، أم هي ساعة الممسوخين والممسوخات؟! نسأل الله تعالى أن يتداركنا بلطفه، ويختم لنا بالحسنى، ويُعلِّم جهلنا ويرفع مقته وغضبه عنا.