من ملامح المجتمع الاسلامي
لضمان دوام شريعة الإسلام، أولت عنايتها بالمثل الإنسانية والقيم الأخلاقية، وعملت على تثبيتها، من خلال ما سنته من تشريعات في العبادات والمعاملات وأنواع السلوك الإنساني. لذلك جاءت آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم، حافلة بالحض على التزام القيم والأخلاق الفاضلة والنهي عن الرذائل، والإرشاد إلى أقوم السبل، لإنشاء مجتمع أفراده مهتدون بهدي الله، يقتدون برسوله الذي وصفه سبحانه بقوله : {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم : 4)، ودعا سبحانه إلى الاهتداء به في فعله ونهيه، فقال سبحانه : {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الاحزاب : 21) فلزمنا الإقتداء به وتمثل أخلاقه في سلوكنا.
فمن خلقه صلى الله عليه وسلم:الثبات في الشدائد، والصبر على المكاره، والغيرة على الحرمات، والرحمة بخلق الله وإصلاح ذات البين، والتعاون على البر والقوى، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، والصدق في القول، والأمانة في العمل، والعدل في الحكم، والشهادة بالحق، والعطف على الصغير واحترام الكبير، وتكريم النساء، وإعطاء كل ذي حق حقه، والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وخفض الجناح، وعزة النفس، والقصد والاعتدال في كل شيء، مع الشجاعة والكرم، والسخاء والجود و الإيثار والعفاف والحياء، إلى غير ذلك من الفضائل التي هي شعب للإسلام، أعلاها الإيمان بالله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
وكلها رغب فيها الإسلام ودعا إليها على أساس أن تبقى وتستمر وتتركز في النفوس، وتتحول إلى سلوك ملموس في المجتمعات الإسلامية، والغاية من التحلي بهذه الأخلاق، وإتباع هذه السلوك، أن يعيش الناس عيشة كريمة، تلائم تكريم الله عز وجل لهم، وتفضيله سبحانه لهم على كثير من خلقه {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}(الإسراء :70) فضلنا سبحانه، وجعلنا خلفاء الأرض، لنعمرها بالخير والصلاح، الذي أراده الله عز وجل في قوله {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك مـــــن الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفســـاد فـــــي الأرض إن الله لا يحب المفسدين} (القصص :77).
وهذه الضوابط التي وضعها الإسلام لحياة الإنسان، وضعها لأنه لا يريد للإنسان أن يعيش حياة الفوضى، وإنما يريد له أن يحيى حياة تليق بمخلوق كرمه مولاه، وبمقتضى هذا التكريم يربأ بنفسه عن أن ينزل إلى مستوى الحيوان الأعجم، الذي لاعقل له ولا تدبير تحكمه شهواته وغرائزه، فيندفع لإشباعها، بلا فكر ولانظر في العواقب، ويريد له أن يحيى حياة الطهر والعفة والصون والحياء، لايدنس جسمه وعرضه {قل للمومنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمومنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبــديـــن زينتهــن إلا ما ظهـــر منها….}(النــور : 30- 31)، {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله…}(النور :33) الإسلام يقيم مجتمعات يحيى أفرادها حياة وحدة وارتباط وتآلف ومودة ومحبة، وأخوة بين الناس جميعا، ليعيش الجميع آمنين على أرواحهم وأغراضهم وأموالهم {إنما المومنون إخوة } >كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه<.
الإسلام يقيم مجتمعات قوامها المساواة بين الناس ومظهرها التراحم و غايتها السلام والوئام بين أفراد أمة يدينون دينا واحداً، ويعبدون ربا واحدا، ولاؤهم جميعا لله عز وجل، وعزتهم في تشبثهم بدينهم، رافعين شعار >كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله أذلنا<.
الإسلام يقيم المجتمعات على الشورى والنصح والتعاون والتفاني في خدمة المصلحة العامة، قال عز وجل {وأمرهم شورى بينهم }. وقال رسول الله : >الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولرسوله ولكتابه ولائمة المسلمين وعامتهم< ويروى عن سيدنا عمر ] كان يسأل ولاته إلى الأقاليم، ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ فيجيب الوالي أقطع يده، فيقول عمر:وإذن فإن جاءني منهم جائع أو عاطل، فسوف يقطع عمر يدك، إن الله استخلفنا على عباده، لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حِرفهم، فإذا أعطيناهم هذه النعمة من الله أقمنا عليهم حدود الله كفاء شكرها”.
موقع المرأة
تلك هي صورة المجتمع الذي أنشاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت دعائمه الصحابة رضوان الله عليهم وعاش في ظله السلف الصالح. وغني عن البيان أن المرآة المسلمة، قد ساهمت في بناء صرح المجتمع الإسلامي الفاضل، بما قدمته من وسائل الدعم المادي والمعنوي للدعوة الإسلامية، منذ بدايتها، كما كان من تثبيت مولاتنا خديجة لرسول الله ، ومساندتها له ولدعوته، وبعدها الأدوار الهامة، التي قامت بها أمهات المومنين مثل مولاتنا عائشة ومولاتنا أم سلمة ومولاتنا زينب، وغيرهن من أمهات المومنين، ونساء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والمسلمات الخالصات لدينهن اللائي حملن أمانة نصرته، وبث تعاليمه، وتربية أبنائه، وتعليم سننه وعلومه، والحفاظ على مثله وقيمه وتثبيتها في مجتمعاته ما يصلح أن يكون، والنموذج الذي يحتذى به فمواقفهن الداعية للاقتداء بهن مغمورة بالطهر والإيمان، والتصدي للشر والطغيان، مفعمة بالصبر والتحدي للعادات السيئة الجاهلية، ويتجلى منها الإقبال على هذا الدين و الامتثال عن طواعية لأحكامه التي أمدت المرأة المسلمة بعناصر بناء الشخصية النسائية المتبصرة، التي تقود الأجيال بأمان نحو غد مشرق تحقق فيه ذاتها وتبرز مواهبها وقدراتها على المساهمة في بناء صرح الحضارة الإنسانية.
وقد أكسبت تلك المواقف النساء الثقة بالنفس مما مكنهن من الإقدام والمساهمة مساهمة فعالة في بناء المجتمع المسلم، وشاركن في كثير من مجالات الحياة لما يمكن أن يعتبر نموذجا للمرأة المسلمة اليوم، تستلهم منه الدور البناء الذي يلزمها القيام به وتستحضر من خلاله المرأة المثالية التي عليها أن تجعلها قدوة، تحذو حذوها وتنهج نهجها.
ومما يؤسف له حقا، ما حصل للمرأة المسلمة من انتكاسة بسبب غلبة التقاليد الفاسدة على التعاليم الإسلامية الصحيحة ، فقد أساء ذلك إلى كيان الأمة الإسلامية وفكرها وعلمها، وأجبرت المرأة على الحرمان من نور العلم الذي يعتبر في الدين فريضة، وأخمدت مواهبها وأسكت صوتها، واعتبر الكثيرون أن العلم ليس من شأن النساء، فخيم بسبب ذلك على المجتمعات الإسلامية جو من الجمود، لأنها حرمت شطرها من نور العلم والمعرفة الذي تستضيئ به المجتمعات لتسير في طريق التقدم.
وما كان لهذا الوضع أن يستمر، فقد انهارت تلك التقاليد المنحرفة أمام المبادئ الإسلامية الصحيحة، التي تنوه بالعلم، وتعتبره أساسا للتدين الصحيح، ووسيلة لكل تقدم أو رقي طموح، وارتفعت الأصوات لفك القيود عن النساء والدعوة إلى وجوب مشاركتهن في بناء المجتمعات.
وأعيدت المرأة إلى المشاركة في الحياة العامة، إلا أن عودتها لم تتم في مجملها وفق تعاليم الإسلام الصحيحة، ففي العصر الحاضر مع طغيان الحضارة الغربية وانحراف بعض المصلحين الذين تولوا مهمة تحرير المرأة عن طريق الجادة وعدم سلوكهم للنهج القويم الموافق لأحكام الدين، في أخذهم بيد المرأة وانتشالها من تلك الوضعية المزرية، ظلت المرأة المسلمة في وضع لا يسر لأنها أبعدت عن الوسطية التي ينشدها الإسلام للعيش في أمن وأمان، فانتشلت من سيطرة الجهل و التقاليد المنحرفة وأغرقت في لجة المادية، التي جعلت من بعض النساء جسدا يباع سلعة رخيصة تروجها أسواق البشر والانحراف وتجعل منهن وسيلة للهدم والتخريب لا للبناء و التشييد.
والواقع أن ما عانته المرأة وما تعانيه، وَلَّدَ عند بعض النساء اللائي يجهلن شريعة الإسلام شعوراً بالظلم، منهن من نسبته إلى الرجل، ومنهن من نسبته إلى الشريعة الإسلامية، وأغلبهن يعتبرن أن ظلم الرجل تم بمباركة الشريعة- وحاشاها من ذلك-إن اللائي يعتقدن هذا الاعتقاد عليهن أن يستغفرن الله عز وجل، ويتبن إلى ربهن، ويقبلن على تعلم أحكام هذه الشريعة، ويسبرن غورها، من أجل الوصول إلى الحقيقة للتمييز بين ما هو من صلب الشريعة، وبين ما أفرزته المجتمعات الإسلامية من آراء ونظريات، كان للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أثر في ظهورها وانتشارها، ومن أجل إدراك مقاصد الشريعة الإسلامية وأبعادها السامية في سن الأحكام المتعلقة بالنساء والأحكام التي نظمت العلاقة بين الرجال والنساء، وتوخيها سعادة المومنين ذكورا وإناثا.
إن المرأة المسلمة اليوم تواجه تحديات، لا تقل خطورة عما واجهته نساء الصحابة رضوان الله عليهن، اللائي حملن أنفسهن أمانة نصرة الدين، وألزمتها الدفاع عن حماه وحرماته ومقدساته، ضد هجمات الكفار.
فعليها أن تحذو حذوهن وتسلك سبيلهن، وتختار الوسائل الناجحة للتصدي للحملات التي تشن على دينها، والتي تستهدف فيها المرأة بطريقة مقصودة لإبعادها عن دينها، وتحميله مسؤولية تخلف النساء المسلمات عن ركب الحضارة، وعدم تبوئهن المكانة اللائقة في مجتمعاتهن، واتهامه بتفضيل الرجال على النساء وتسليطهم عليهن، وغير ذلك من التهم الباطلة، التي لاصلة لها بحقيقة ديننا الحنيف، والتي هي من تعاليم دين الغرب، كما تنص على ذلك كتبهم المقدسة، ففي كتب العهد القديم والعهد الجديد السفر الثالث من سفر التكوين :”للمرأة تكثيرا أتعاب حبلك، بالوجع تلدين الأولاد، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك” فأين هذا الذي في كتابهم -على زعمهم- من قول الله عز وجل : {والمومنون و المومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر و يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}(التوبة :71).
إنهم رفضوا تعاليم كتبهم المحرفة، ويريدون منا أن نتخلى عن ديننا الحنيف الذي هو عصمة أمرنا، وقد تكفل الله تعالى بحفظه، وهيأ له من ينصره في كل زمان ومكان.
و المرأة المسلمة مثل الرجل، مدعوة للدفاع عن دينها، بما تملكه المرأة من طاقة هائلة، للتأثير في المجتمعات (عبر الزوج و الابن و البنت ، والأخ والأخت، و التلميذ و التلميذة… وهي إما أن تدفعهم إلى معالي الأمور و عزائمها، وإما أن تدفعهم إلى سفاسفها و أسافلها، ولقد قيل بحق (وراء كل عظيم امرأة).
إن المرأة المسلمة ليست ضعيفة كما يظن البعض أو يتصورها، إنها تقوى بإيمانها بالله، وبعدالة شريعته، وبتعلقها بقيم دينها ومثله، وإنها اليوم -والحمد لله- قد بدأت تتفطن للحملات المغرضة التي تستهدفها، وتيقنت أن الذي يقتل النساء و الأطفال ويستعبدهم ويستغل أجسادهم أبشع استغلال في أسواق التجارة و الدعارة، لا يملك العطف و الشفقة، ولا يقدر على العطاء دون مقابل.
إن المرأة المثقفة وخاصة تلك التي آتاها الله من علم هذه الشريعة الغراء تتحمل مسؤولية الدفاع عن دينها ودحض ما ينسب إليه من الأباطيل وتتحمل مسؤولية تجلية الحقائق لغيرها من أخواتها المسلمات، وتوجيههن وتنبيههن إلى سوء ما يراد بهن. وعليها أن تشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها، وتحمل بصدق عبء الدعوة إلى الرجوع إلى الامتثال للقيم الدينية و الأحكام الشرعية. وعليها أن تشحذ همم وعزائم أخواتها وتحفزهم للعمل معها، كل واحدة من موقعها وبحسب استطاعتها.
من واجبات المرأة اليوم
والمرأة المغربية رغم كونها حديثة العهد بالعمل في مجال الدعوة، فإن عليها
1- أن تستوعب هذه التجربة بسرعة، وعليها أن تستفيد من تجربة من سبقوها إلى العمل في الميدان، و لا بأس أن تستعين بأخيها الرجل الذي سبقها إليه، وعليه أن يفسح لها المجال لممارسة نشاطها، والتعبير عن آرائها،
2- عليها أن تسعى بجد، لتمتين ثقافتها الإسلامية ، وتنهل من مختلف علومها، لأن العلم سلاحها الأهم في معركتها النضالية.
3- عليها أن تلج بثقافتها من نفس الأبواب التي يلجها غيرها، لذلك عليها أن تسعى للحصول على وسائل المعرفة الحديثة و أساليبها العصرية.
4- عليها أن تنتبه وتنبه إلى أهمية تلك الوسائل، وخطورتها في نفس الوقت، فهي سلاح ذو حدين.
5- عليها أن تسلك في دعوتها المنهج الذي بينه الله عز وجل في كتابه وسار عليه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، الوارد في قوله سبحانه : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعضة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
وإن خلية المرأة و الأسرة بالمجلس العلمي المحلي لفاس، استشعارا منها بخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقها، تمد يدها إلى كافة الذين تتطلع إليهم ليكونوا شركاء في مسيرتها الدعوية، من الذين تأخذهم الغيرة على أمة الإسلام، وهبوا أنفسهم لخدمة رجالها و نسائها، شبابها و أطفالها، للعمل جميعا على أن نشاهد سمات المجتمع الإسلامي الذي رسمت صورته في بداية هذه المحاضرة متجلية في هذه المدينة السعيدة (فاس) التي اعتبرت عبر العصور، مدينة العلم، و الذود عن الدين، والعودة بها إلى سالف عهدها، حين قيل عنها: إن العلم يكاد ينبع من حيطانها، من كثرة من حل بها من العلماء والصلحاء، جعلنا الله على آثارهم، وأفاض عليها من بركات علومهم التي هي من فيض الوحي.
وعلى نبينا عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم. والحمد لله رب العالمين.