الاستقامة هي المنهج الصحيح للتدين المقبول عند الله، فعليها يقوم الدين وبها يستمر، فالتدين بدونها لا معنى له، وهي سلوك بشري سام من أجله خلق الانسان ليسير على الصراط المستقيم، الذي شرعه الله للعباد في الديانات السماوية كلها وأمرهم باتباعه، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الداريات:56). فبالاستقامة يترسخ الإيمان في قلب الإنسان، وتحصل له التقوى ويتحسن خلقه مع ربه ومع نفسه وباقي الناس أجمعين، ولقد ضرب الرسول الكريم ، أروع الأمثلة في الخلق الرفيع، والاستقامة على طاعة الله عزوجل، حتى أثنى عليه المولى تبارك وتعالى في قوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم: 4). وكفى بهذا الثناء والمديح رفعة وعزا لنبي الهدى . سئل أبو بكر ] عن الاستقامة فقال: ألا تشرك بالله شيئا. وسئل عنها عمر ] فقال: أن تستقيم على الأمر و النهي، ولا تروغ روغان الثعلب. إن أمة القرآن لا يمكن لها إلا أن تحيا على سيرة رسول الله صلى اله عليه وسلم، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر:7). قال أحمد شوقي عن الاستقامة:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
فقوم النفس بالأخلاق تستقم
وقال آخر:
صن النفس واحملها على ما يزينها
تعش سالما والقول فيك جميل
ما هو الصراط المستقيم؟
إن الصراط المستقيم في كلام العرب هو الطريق السوي، يقول الإمام الطبري رحمه الله: أجمعت الأمة من أهل التأويل، على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف. وفيما روي عن علي ] أنه قال: الصراط المستقيم كتاب الله تعالى. ولا ريب أن من عرف الصراط المستقيم وسار عليه في دنياه كما أمر، نجا من عذاب الله في الآخرة، وكان من الذين شملهم قوله تعالى : {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمينفيها جثيا}(مريم: 71 – 72).
وفي حديث الشفاعة عن رسول الله ، قال: >يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم< قلنا يارسول الله وما الجسر؟ قال: >مدحضة مزلة عليه خطا طيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان، يمر المومن عليها كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلك، وناج وخدوش ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحبا<(أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى في سورة القيامة: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) حديث 7440.وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب معرفة طريق الرؤية، رقم:183. من حديث أبي سعيد الخدري، وقد قال ] في الجسر: بلغني أن الجسر أدنى من الشعرة وأحد من السيف.
الأمر بالاستقامة على الصراط المستقيم
إن الأمر بالاستقامة على الصراط المستقيم، خوطب به الرسول ، في قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير}(هود: 112) كما أمر الله عزوجل نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام، بالاستقامة عليه بعد ما استجاب لدعوتهما على فرعون وجنوده، فقال على لسانهما : {ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يومنوا حتى يرووا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}(يونس: 88 -89).
وقد كان إخبار رسول الله للمكذبين به وبرسالته، أنه بشر مثلهم، مرسل من عند الله إلى جميع الناس، وأن عليهم أن يومنوا به ويستقيموا على الصراط المستقيم، امتثالا لأمر ربه بذلك في قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم واحد فاستقيموا إليه واستغفروه}(فصلت:5). ويخبر الله تعالى عباده على أن القرآن الكريم، هداية ورشد وتذكير لمن شاء منهم أن يتعظ به ويستقيم، فقال سبحانه : {إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم}(التكريم:28).
الاستقامة المفيدة
إن الاستقامة الخالية من الإيمان لا تفيد صاحبها في شيء، بل كل أعماله الصالحة تكون محبطة، إما بالكفر أو الردة أو التكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة، ولا تعتبر أعماله مستقيمة ومقبولة عند الله، إلا إذا كانت مسبوقة بالإيمان، فعن سفيان ابن عبد الله ] قال : قال رسول الله : >قل آمنت بالله ثم استقم<(أخرجه مسلم). إن الله تعالى أمر عباده بالاستقامة لما لهم فيها من فوائد، وبشرهم بالأمن من الخوف والعذاب، ووعدهم بالدخول إلى الجنة إن هم آمنوا به ثم استقاموا، فمن صلحت أعماله يجزى الجزاء الحسن، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة، التي كنتم توعدون}(فصلت 29). فالاستقامة على الصراط المستقيم سبيل الله، من سلكه نجا ومن حاد عنه هلك، فعن ابن مسعود ] قال: خط رسول الله صلى عليه وسلم، خطا بيده ثم قال : >هذا سبيل الله مستقيما< وخط عن يمينه وشماله خطوطا ثم قال: >هذه السبيل ليس فيها سبيل إلا عليها شيطان ه< ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}(الانعام: 154). والاستقامة لا تتحقق إلا بوجود أمرين اثنين: أولاهما العلم لأن الله تعالى لا يعبد إلا بالعلم، والعلم يطلب من الله عزوجل كما تطلب منه باقي النعم و الارزاق، ونظرا لأهمية العلم في حياة الإنسان أمر سبحانه رسوله عليه السلام، بأن يطلب منه المزيد من العلم فقال: {وقل رب زدني علما}(طه: 111). ومن لا علم له فعليه أن يسال أهله {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وثانيهما التمسك بالجهد والصبر على الاستقامة، وقد قال رسول الله ، عن ذلك حين قيل له: شبت يا رسول الله! فقال: >شيبتني هود وأخواتها<” يقصد ما ورد فيها من الأمر بالاستقامة ” فاستقم كما أمرت… ” إن المتأمل في هذه الآية وأمثالها ليعاني من الخوف والرجاء، وإن السبيل الوحيد لتقوية الرجاء على الخوف يكمن في المداومة على الاستقامة، والوقوف بحزم وإيمان أمام الإغراءات الدنيوية عساه يكون من المنعمين بالجنة بفضل الله ورحمته سبحانه، ولا يحسبن أحد أن الاستقامة تدخل صاحبها إلى الجنة لا محالة، فعن أبي هريرة ]، عن النبي قال: >سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا ولا أنت يارسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل<(رواه مسلم).
من هم الضالون عن الاستقامة ؟
إن الضالين عن الاستقامة منا، لا يخلو منهم زمان أو مكان، فبمراجعتنا القصرة لتاريخ الإسلام والمسلمين، سوف نقف على بعض الهفوات والأزمات التي مرت في ذلك بعدنا عن شرع الله أولا، والخوف والشقاق والنفاق والتقليد الأعمى والخضوع الكلي لما يُملى علينا حقا كان أو باطلا ثانيا، إن خلاص الامة من الضعف والهوانوالتبعية لا يتحقق لها إلا بالرجوع لكتاب الله وسنة رسوله ، فهما العلاج الأنجع لها ولن تبحث عن علاج آخر كيفما كان نوعه، لكن كيف ومتى تقوى عزائمنا على ذلك، والحالة أن منا من هو ضال عن الاستقامة بالقول، كالحلف والكذب وشهادة الزور وعدم الوفاء بالعهد أو الوعد ؟ ومنا من هو ضال عنها بالعمل كالغش والتزوير والتطفيف في الكيل والميزان، ومنا من يتصف بصفات كالحقد والحسد والبغضاء، ومنا من هو غارق فيما حرم الله، يحاول لف نفسه بستار مهرجان كذا ومهرجان كذا…إنه بحق ستار ظاهره المصلحة العامة وباطنه إشباع رغبات المرضى عقليا، فما أخفى عن الناس من ذلك، لم ولن يخف عن الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومنا من يهمل أو يقصر في أداء المهمة الموكولة إليه، إما بالمماطلة أو بخلق أسباب ومبررات واهية، رغبة في استمالة أصحاب الحاجات لدفع ما يرغب فيه صاحب المصلحة، وبهذا التصرف الدنيء المخالف للشرع والقانون، يجر صاحب المصلحة، لينصاع لرغبته بذريعة الضرورة والاضطرار، فيبتعدان معا عن الاستقامة ويقعان في المحظور، وفي الحديث : >لعن الله الراشي والمرتشي والرائش<(رواه الإمام أحمد). ولا تنسى غفلة الأغنياء أو نسيانهم لحاجات الفقراء والمحتاجين وعدم التفاتهم لما يعانون من حرمان ونقص في المأكل والملبس والمسكن والتعلم والعلاج…فعدم مد يد العون والمساعدة لهذه الفئة من مجتمعنا، يبقى الأغنياء بعيدين عن الاستقامة، قال تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}(الذاريات: 19).
إن المجتمع الذي يتصف جل أهله بهذه السلبيات، تقل فيه الرحمة وتنعدم فيه الثقة، ويسود فيه الغش والخداع وسوء الظن، ويكون الخسران فيه لمن أذنب دنيا و أخرى، {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون}(إبراهيم: 44).
توجيه المنحرفين عن الاستقامة
إذا علمنا أن نفس الإنسان تتنازعها نزعتان: نزعة طبيعية تميل إلى الخير وتسربه، وتنأى عن الشر وتحزن لارتكابه، وتنظر للاستقامة على أنها السبيل الوحيد لنجاح النفس وفلاحها.ونزعة طائشة زين لها الشيطان فعل أو قول ما يعود عليها بالضرر والهلاك، وصلاحها يكون بالاستقامة، وطلب التوبة والاستغفار من الله عزوجل {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود}(هود: 90). أما الزلل الذي يتخلل الاستقامة حينا بعد حين، فإنه لا يفسدها ولا ينفيها عن المسلم إذا تداركه بالتوبة مصداقا لقوله تعالى : {إنما التوبة على الدين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما}(النساء:17). وقوله : {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}(النساء:109).
ذ.محمد الصباغ