ليس هناك شيء أكثر خطورة على المسلمين من السكون والاسترخاء والاستسلام للنوم والأحلام. فالسكونية عفونة روحية تقتل المواهب وتحطم الإبداع وتخنق البطولة وتكتم أنفاس العبقرية. ومذ مات الوازع الحركي في المسلمين، وتوقفوا عن الهجرة والانسياح في أرجاء الأرض حاملين دعوتهم إلى العالم… منذ ذلك الوقت توقفت إبداعاتهم وغاب فهمهم ونجمت في أوساطهم إشكالات فكرية موهومة وخصومات مذهبية جدلية، وانشغل بعضهم ببعض، وربما قاتل بعضهم بعضا، متناسين مهمتهم الدعوية الأساس التي ندبهم الله تعالى لها.
والإمام بديع الزمان يؤكد أن دعاة الإيمان إذا ما ساحوا وهاجروا إلى أي مكان في العالم وضربوا جذورهم فيه، فإن الشجرة لا بد أن تنبت عن قريب، وأن تورق وتثمر، وإن تاريخا جديدا للإسلام سيبدأ يتشكل في المكان الذي زرعوا أنفسهم فيه(2).
ومن ثم حث العلامة الداعية فتح الله كولن الذي تشبع بفكر النورسي… حث أصحاب الفكر والحمية من الأمة على إنشاء المدارس والجامعات في تركيا وفي مختلف أرجاء المعمورة، وجعلها مراكز للتربية والتعليم، تدعو إلى الإيمان، والحب والسلام، والحوار والتسامح، ومزج العلم بحقائق الإيمان، ومواكبة العصر من حيث التطورات العلمية والتكنولوجية، مع أخلاق سامية يشار إليها بالبنان. وربما يكون هذا أسلوبا جديدا غير مسبوق في تعريف الشعوب بالإسلام. وقد أثبت نجاحَه حيث استطاع أن يوصل صوت الإيمان إلى أصقاع قاصية لم تكن قد سمعت بالإسلام في شرق العالم وغربه وشَماله وجنوبه وكافة قاراته.
يقول الأستاذ فتح الله: “لو أن بديع الزمان حظي بدعم بضع مئات من المثقفين وهو ينشر أفكاره في أرجاء البلاد ووجد منهم سنداً لأفكاره فلربما كنا اليوم من أغنى الأمم وأكثرها مدنية، ومن أقدرها على حل المشاكل التي تعرض لها، ولدخلنا مرحلة الصحوة والتقدم في بداية القرن العشرين، ولما جابهتنا المشاكل الراهنة”(3).
والأستاذ فتح الله كولن بما يملك من عقل كبير وحس مرهف وروح خصب استطاع أن يشرع في إتمام ما بناه الرجل، غير أنه جسم أفكاره إلى واقع معيش، فأودعها كتابا ومدرسة ومؤسسة وصحفا ومجلات، وانداح بالدعوة إلى آفاق أكثر علوا، وأوسع رحابة، وأوصلها إلى أصقاع لم تكن تدري ما الإيمان وما الإسلام.
لقد أوجد عالما دعويا جديدا يتقد كشعلة من نار، تجعله في صحو فكري دائم، وتعطيه قوة وثقة، فصار ضميرا كبيرا وقلبا عميقا وفكرا خصبا، يموج بالمبتكر والجديد في كل حين. ولا شك أن أكبر الفضل في ذلك يعود إلى عالم النورسي الثري.
وها هو يقدم صورة شاملة للإسلام من خلال فهمه لرسائل النور فيقول:
“الإسلام إيمان، وعبادة، وأخلاق، ونظام يرفع القيم الإنسانية إلى الأعلى، وفكر، وعلم، وفن. وهو يستلم الحياة كلاً متكاملاً، فيفسرها، ويقيّمها بقيمه السامية، ويقدم لأبنائه مائدة سماوية من غير نقص. وهو يفسر الحياة دوماً مع الواقع، ولا ينادي ألبتة بأحكامه في وديان الخيال المنقطعة عن الحياة. يربط أحكامه وأوامره بمعطيات الحياة المعيشة، ولا يبني عالمه في دنيا الأحلام. الإسلام حركية في الحياة بكل مساحاتها، من المعتقدات إلى أنشطة الفن والثقافة… وذلك هو أهم باعث لحيويته وعالميته الخالدة”(4).
والأستاذ “فتح الله” في مقدمة أولئك الذين يحملون هموم البناء في نفوسهم. إنه يحمل أعظم الأحجار ثقلا لكي يسهم معهم في بناء ذلك الصرح الحضاري الذي يبنونه بتؤدة حجرا من فوق حجر.
وهو ما ينفك يؤكد على أن ما نحتاج إليه لتجديد العالم لم يكن العنف مطلقا، بل هو فعل ثقافي وروحي عظيمان. إنه ثورة نفس وانبعاث روح واشتعال عقل. إن تغيير الداخل هو خطوة أولى في سبيل تغيير عالمنا وتغيير كل عالم من حولنا. ويقول في هذا الصدد :
“إن الهمم الفكرية والتخطيطية والفنية تولد ابتداء في ذات الإنسان، ثم تتشكل صورها، ثم تتوسع وتنبسط إن وجدت المناخ الملائم للنمو والتطور. وكذلك أيضا العبادات والأخلاق والحياة الروحية والثقافية والمناسبات البشرية الأخرى كافة… يُستَشْعَرُ بها بدايةً في عمق الإنسان إيمانا وإذعانا، ثم تنمو لتحيط بالحياة كلاً، وتسربل بصبغتها التصرفاتِ البشريةَ كافة، فتكونَ معيِّنا وموجِّها أساسيا لكل همة وحملة وحركة(5).
ذ.نوزاد صواش
———
2- نحو الفردوس المفقود، م. فتح الله كولن، كتاب لم يترجم إلى العربية بعد، ص 6-
3- ونحن نقيم صرح الروح، م. فتح الله كولن، ص 89
4- ونحن نبني حضارتنا، م. فتح الله كولن، ص 67
5- ونحن نبني حضارتنا، ص 65