بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله فكرا وأدبا أضحى يشكل اليوم ظاهرة واضحة المعالم لها حضور متميز في مجمل الحركة الفكرية والثقافية في تركيا. وأيّ راصد للحركة الثقافية في تركيا اليوم ليس بوسعه أن يتجاهل فكر النورسي وتأثيره على الساحة الثقافية فيها. وعلى الرغم من كل المحاولات لطمس معالم هذه الظاهرة ووأدها في مهدها، إلا أنها استطاعت أن تشق طريقها إلى أوساط المثقفين وكبار العقول في تركيا وفي أقطار كثيرة خارج تركيا.
وكون الأستاذ النورسي ينطلق من منطلقات إيمانية وإسلامية يعني عدم محدودية هذا الفكر أو الأدب الذي يعبر عنه. لقد أدرك النورسي رحمه الله أن مفتاح الحياة الإيمانية إنما هي الكلمة المبدعة. والكلمة المبدعة أقدر من غيرها على أن تُعتق قلوب العباد من عبوديات جميع الأرباب، ثم الأخذِ بيد الإنسان والتفتيش معه في تغييرات الزمان عن الذي لا يتغير، أي عن الله. فالله تعالى هو منبع كل جمال وجلال في الإنسان والكون والطبيعة والحياة.
إن فضولاً معرفيا هو ما يثيره أدب النورسي لدى المتلقي حتى ليكاد يبلغ حد السكين المرهف، فلا ينفك ينخَس وجدان المتلقي وعقله حافزا فيه رغبة هائلة في الفهم والإدراك. إنه يتوجه إلى القلوب الضالة سابرا غورها، وكاشفا سِترها، لكي تَمضي كلمتُه الوادعةُ عميقا في هذه القلوب، ليس من أجل معرفتها فحسب، بل من أجل أن تغتسل بنور اللطف والود والمحبة السيّال من قلمه النوراني المرهف.
وكثيرون هم الذين قرأوا النورسي في تركيا وتأثروا به، واتخذوا من منحاه الفكري والأدبي طريقا للدعوة والتبليغ والإبداع. ولا يسعنا في هذا البحث الوجيز أن نتطرق إلى جميعهم، لذا نقتصر على الأستاذ فتح الله كولن لما يكنّ له الشعب التركي من محبة كبيرة، ولما يمتاز من شعبية واسعة فيالساحة الفكرية والثقافية والدعوية في تركيا، ولكونه واحدا من أبرز من اعتمد فكر النورسي هاديا له في العمل الفكري والدعوي والتربوي.
فهو يؤكد قائلا “إننا لن نفهم النورسي إن اقتربنا منه ومن أفكاره بأسلوب عاطفي بحت. فمثل هذا الأسلوب لن يكون جاداً في فهم المسائل التي طرحها ودافع عنها طوال حياته دفاع الأبطال. فقد عاش حياته كلها في ظل الكتاب والسنة محلقاً بأجنحة المنطق والتجربة. ومع عمق عالمه العاطفي، وقلبه المشبوب بحب الله فقد ظل على الدوام رجل عقل ومنطق”(1).
فهو صاحب العقلية الفذة الذي سبق معاصريه بنظراته الثاقبة ومشاريعه الكبيرة. فالاقتراب إلى بديع الزمان ودعوته من هذا الجانب مهم جدا لفهم ما يعنيه لنا في عصرنا باعتباره امتداداً لسلسلة عظماء الإسلام.
لقد استطاع الأستاذ النورسي رحمه الله أن يكون – مع بضعة آخرين – في رأس قائمة المفكرين في طول العالم الإسلامي وعرضه، وأن تكون كتبه مقروءة بشوق وحب من قبل مستويات مختلفة، وأن يكون من الشخصيات التاريخية التي لا تبلى مع الزمن ولا تُنسى مع الأيام.
أجل! ففي عهد كانت الأمة فيه تتقلب ألماً من السقوط ومن الضحالة الفكرية، والتي أصبحت فيه الآلام الاجتماعية عقدة مستعصية وظهرت كل يوم مئات من الحوادث الرهيبة في كل ناحية من أنحاء البلاد، وتهدمت كل المعايير والمفاهيم الإسلامية، وأصبحت أنقاضا فوق أنقاض… في مثل هذا العهد المظلم العاصف كان بديع الزمان يبحث عن الحلول ويشخص الأمراض ثم يكتب الوصفات لها كطبيب حاذق.
لقد رأى الأجيال البائسة وأحس بآلام هذه الأجيال في أعماق روحه، فعاش حياته وهو في انفعال روحي يفكر على الدوام ليقدم حلولاً بديلة للدولة والمجتمع، وينبهَ هذه الأمة البائسة ويذكّرها أنها وإن كانت الآن تعيسة الحظ إلا أنها أمة عريقة في المجد وغنية بالبطولات.
قام بديع الزمان منذ عهد الدولة العثمانية بالتجوال في معظم أرجاء البلاد… من مدنها الكبيرة إلى قراها الصغيرة… ومن مناطقها المزدحمة إلى المناطق النائية. رأى الجهل ضارباً أطنابه في كل مكان، ورأى الناس يتجرعون آلام الفقر… رآهم شيعاً وأحزابا يأكل بعضهم بعضاً… ارتعش فزعاً مما رآه، ولأنه كان رجل فكر ونظر ثاقب أدرك طبيعة عصره وفهمه بعمق، وحاول أن يبث في قلوب الجماهير روح العلم… واهتم بأسباب التدهور الاقتصادي وعوامل الفقر والحاجة، وبحث عن حلول لأسباب فرقة أمتنا وعن علاج لخلافاتها، وأكد دائماً على ضرورة الوحدة والاتفاق..
إذن كيف كان أثره في مختلف مناحي الحياة التركية؟ هذا ما سنحاول بسطه في الأعداد القادمة
———
1 - ونحن نقيم صرح الروح، م. فتح الله كولن، ص 80، دار النيل للطباعة والنشر
ذ.نوزاد صواش