في مسألة التغيير والاصلاح
لقد اجتمعت أسباب كثيرة دفعتني لاختيار هذا الموضوع ولعل أهمها، الوضع الثقافي والفكري الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية، وأزمة اللاوعي التي شكلت في أوساطنا المرض العضال الذي يحتاج لتكثيف الجهود من أجل القضاء عليه.
ولا نستطيع أن ننكر أن الاستقلال الذي نالته الشعوب الاسلامية مازال استقلالا مفرغا من كثير من المحتوى والمعنى، لأن الاستعمار مازالت جذوره ضاربة في بنيتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. صحيح أنها تخلصت من الاستعمار المباشر- العسكري-ولكنها لازالت تعاني من الاستعمار غير المباشر وهو الذي ضرب سياجه على الفكر والثقافة في البلاد الاسلامية، فشخصية الفكر الاسلامي لم تكتمل بعد”ولم يظفر بعد بحقه في السيطرة على وجوه الحياة، وبقيمته الاجتماعية باعتباره وسيلة للعمل وأساسا جوهريا للنشاط”(1).
ومالك بن نبي يرجع هذا النوع من الاستعمار-الاستعمار الثقافي- إلى” القابلية للاستعمار” وقال في هذا الشأن:”إن هناك حركة تاريخية ينبغي ألا تغيب عن أنظارنا، وإلا غابت عنا جواهر الأشياء، فلم نر منها غير الظواهر، هذه الحركة لا تبدأ بالاستعمار بل بالقابلية له فهي التي تدعوه”(2).
مالك بن نبي تناول مسألة التغيير كتكليف ملقى على عاتق كل مسلم ومسلمة امتثالا لقوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} وهنا تكمن شروط التغيير والخيرية والخلافة، وهي الشروط التي استقامت بها الأمةونهض بها المشروع الاسلامي الأول والذي يعرف اليوم تخلفا كبيرا يرجعه مالك بن نبي إلى سببين :
ـ “… الأول إشكالية النهوض والتغيير، يتمثل في غياب مناهج وبرامج التجديد والتغيير والنهوض، التي تدرك سنة الله في الأنفس والآفاق أو قصورها..
- الثاني: يتمثل فيما يمكن أن نطلق عليه”غياب فقه التنزيل” أي غياب فقه تنزيل النص على الواقع، من خلال ظروف وملابسات هذا الواقع واستطاعته لا للقبول به، وإيجاد مسوغات له، وإنما لتغييره والنهوض به والارتقاء به وتطوير استطاعاته من الحال التي هو فيها، وهذا لا يتحقق إلا بفهم الحاضر وامتلاك القدرة على وضعه في الموقع المناسب من مسيرة السيرة النبوية، والاعتبار أيضا بالمسيرة التاريخية للأمة المسلمة حيث تمنحها الرؤية القرآنية، وبيانها النبوي ، وتنزيلها على الواقع في مرحلة السيرة، الحلول المتعددة، للحالات المتعددة”(3).
وحتى تكون عملية التغيير عملية شاملة- كما يقول ابن نبي -لا يكفي أن يدرك أصحاب الفكرة-فكرة الثقافة التي لابد أن تسود-وحدهم ضرورة الإصلاح من الوضع الفكري والثقافي الحالي ، بل لابد من أن تدرك باقي الفئات الأخرى بطريقة أو بأخرى فكرة الإصلاح أو التغيير وتدرك أنه لابد من ّتغييرات ثورية:فإما أن نقوم نحن المسلمين بالتغيير في مجتمعاتنا، وإما طبيعة العصر تفرض علينا تغييرات من الخارج…لأن هذه هي روح العصر، فالذي يجب أن نؤكد عليه أولا وأن تتذكروه دائما: أننا إذا لم نقم نحن بثورتنا فإن التغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا”(4).
في التغيير الثقافي الاجتماعي
في فكر مالك بن نبـي
لقد عالج مالك بن نبي الحالة الاجتماعية للشعوب الإسلامية في سلسلته مشكلات الحضارة وركز في دراسته على عناصر ثلاثة:
“عالم الأشخاص”وهو الذي يعكس علاقات المجتمع ومدى ترابط أفراده، وعليه أيضا يقوم العنصران الآخران:”عالم الأفكار” و”عالم الأشياء”، فكلما تطور مجتمع ما على أية صورة:صوب الأعلى أو صوب الأدنى، فإن هذا التطور سجل كما وكيفا في شبكة علاقاته”(5) .
وهاته العلاقات طبعا يعكسها الأشخاص، أما إذا تفككت هذه الشبكة فما ذلك إلا إيذانا بنهاية المجتمع وحينئذ لا يبقى منه إلا ذكرى مدفونة في كتب التاريخ، وعديدة هي المجتمعات التي عرفت التحلل والفوضى الاجتماعية، وما أصابها هذا التحلل إلا عندما انتشر المرض في جسدها الاجتماعي، ولعل هذا التحلل يكمن في شبكة العلاقات ، فالمجتمع قد”يبدو في ظاهره ميسورا ناميا، بينما شبكات علاقاته مريضة ويتجلى هذا المرض الاجتماعي بين الأفراد”(6).
فما هو سبب داء شبكة
العلاقات الاجتماعية؟
تأملات في العوالم الثلاثة : الأفكار والأشخاص والأشياء
عندما تتفشى في المجتمع ظاهرة الانفصال بين الأفراد، ويحاول كل إنسان العمل أو التفكير أو التخطيط بمفرده، حينها يمكن أن نعلم سبب الداء: استيلاء”الأنا”وتحكمها في الفرد، وبالتالي تغييب الروح الجماعية التي كانت سائدة في فترة من الفترات في الشعوب الإسلامية والتي كانت أساس كل نشاط أو عمل، وبغياب الروح الجماعية تفسد العلاقات الاجتماعية،”والعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول المشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين تسوغ (الأنا)”(7).
وعقدة”الأنا”أصبحت سيطرتها تفوق كل عقدة، واكتسحت كل المجالات لا المجال الاجتماعي وحده، فنحن حين نقوم بدراسة أمراض مجتمع معين، من مختلف جوانبه الاقتصادية والسياسية…فإننا في الواقع ندرس”أمراض”الأنا” في هذا المجتمع وهي الأمراض التي تتجلى في لا فاعلية شبكته الاجتماعية”(8).
وإذا ما أرجعنا هذا للاعتبار النفسي، فإن حكمنا سيكون على ظواهر الأشياء لا على جواهرها، لأن هذه العقدة تسببت في فساد مجتمعات عديدة،”وكل علاقة فاسدة بين الأفراد تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية، إما بتصعيبها أو باستحالتها “(9) .
جدلية العوالم الثلاثة
وعندما نتحدث عن فساد العلاقات الاجتماعية فإنا نقصدبالدرجة الأولى فساد “عالم الأشخاص”وطبيعي أن يتأثر “عالم الأفكار” و” عالم الأشياء” بفساد” عالم الأشخاص”، باعتبار تلك العوالم الثلاثة كل لا يتجزأ، ولأن”غنى المجتمع لا يقاس بما يتملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار”(10).
قد يتعرض مجتمع ما لكارثة طبيعية مثلا تذهب بعالم أشيائه، ولا ينقذ منها إلا النزر القليل أو لا شيء، فيجد نفسه أمام أزمة تجتاح “عالم الأشياء”، وهو مضطر للعمل من أجل إقامة أسس هذا العالم من جديد،ولكن الأزمة ستكون أمر وأعظم وقعا، بل إنذارا بالخراب المستمر إذا فقد هذا المجتمع” عالم أفكاره”، لأنه على الأقل إن حافظ على هذا الأخير، سيتمكن من إقامة صرح عالم الأشياء من جديد.
وفي مقابل أهمية “عالم الأفكار” بالنسبة لقيام” عالم الأشياء”نجد أن عالم الأفكار لا يمنع حدوث الهزيمة والاضطراب في مجتمع ما، إذا ما افتقر لشبكة العلاقات الاجتماعية، والتي تقوم على عالم الأشخاص لأن ” فاعلية الأفكار” تخضع لشبكة العلاقات،-أي لا يمكن أن نتصور عملا متجانسا بين الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية،وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق، كان العمل مؤثرا(11)، لأن هذه العلاقات الخاصة بعالم “الأشخاص” هي التي تقدم الروابط الضرورية بين الأفكار والأشياء في نطاق النشاط المشترك الذي يقوم به مجتمع ما(12).
قيام العلاقات الاجتماعية على أساس أخلاقي:
إن مشكلة مجتمعاتنا الإسلامية والتي تعد سببا من أسباب الفوضى في مختلف المجالات تكمن في كون الفرد المسلم أصبح عاجزا عن الجمع بين العمل والتفكير في الوقت ذاته، وهذا العجز عن الجمع بين التفكير والعمل، الناتج عن الخلط بين جواهر الظواهر وأشكالها، “تذكيه دائما ضروب من الشلل، أصابت النواحي الخلقية والاجتماعية والعقلية جميعا، وأخطر هذه النواحي هو الشلل الأخلاقي.
فالشلل الأخلاقي الذي تعاني منه الأمة الإسلامية أصابها عندما تخلت عن مبادئها ومناهجها الذاتية في الترقية والتوجيه، وشدت الرحال للطرف الآخر لتستورد منه المناهج والمبادئ والقيم التي تفتقر لذلك الأساس الرباني الذي كان طوال الفترات السابقة لهذه الأمة السر الخفي الكامن وراء انتصاراتها، والذي تخلت عنه عندما ساد الجمود أركانها ولجأت إلى التقليد و”التقليد الخلقي يقتضي-لا محالة- التخلي عن الجهد الفكري أي عن (الاجتهاد) الذي كان الوجهة الأساسية للفكر الإسلامي في عصره الذهبي”، وبالتخلي عن الاجتهاد:”يتجمد الفكر ويتحجر في عالم لم يعد يفكر في شيء لأن تفكيره لم يعد يحتوي صورة الهم الاجتماعي”(13).
إذن، لكي تؤدي تلك العوالم الثلاثة دورها في إقامة شبكة العلاقات الاجتماعية لا بد لها من ضابط يوجهها وهو: الضابط الأخلاقي، فكما أن هذه العلاقات تقوم على أساس عالم الأشخاص والأفكار (الثقافة)، والأشياء فإنها أيضا تحتاجإلى مكون آخر هو المكون الأخلاقي، لهذا يؤكد مالك بن نبي على أمرين:
“1ـ أن مجتمعا معينا لا يمكن أن يؤدي نشاطه المشترك دون أن توجد فيه شبكة العلاقات التي تؤلف عناصره المختلفة، النفسية و الزمنية.
2 ـ وإن كل علاقة في جوهرها قيمة ثقافية يمثلها القانون الخلقي، والدستور الجمالي الخاص، بالمجتمع”(14).
وإذا نظرنا إلى الوضع الاجتماعي الذي تعيشه الأمة الإسلامية،سواء من حيث علاقته بالثقافة أو بالسياسة أو بالاقتصاد، لا يمكن أن نقول إلا : لابد من دراسة هذا الواقع المتعفن الذي يعكس أفكارنا وقيمنا الخاطئة والمزيفة، واستبداله بواقع آخر نظيف، وهذا الاستبدال أو التغيير عنصره الأساسي: الفرد:”أي أن التغيير النفسي هو الذي يستهل حياة المجتمع، وهو أيضا الشرط النفسي في كل تغيير اجتماعي”(15)،وهو أيضا:”الشرط الأساسي لتغيير أوضاعنا المتخلفة، فلقد أثبت التاريخ صحة هذا القانون:(غير نفسكتغير التاريخ) أو بالتعبير القرآني الرائع:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”(18)سورة الرعد:آية:11.”لا يغير ما بهم من انحطاط وتخلف حتى يغيروا ما بأنفسهم من أفكار خاطئة، ولكن في أي اتجاه؟، في اتجاه تحويل الواقع من واقع متخلف إلى واقع متحضر، عن طريق تحويل الإنسان، من إنسان متخلف إلى إنسان متحضر”(16) يتفاعل مع الفكرة الدينية، ومن المعلوم أن أعظم التغيرات وأعمقها في النفس قد وقعت في مراحل التاريخ مع ازدهار الفكرة الدينية(17).
لذلك وجبت الإشارة إلى أهمية الفكرة الدينية ودورها في التغيير الذي تحدثه في الفرد، وبالتالي في المجتمع، لنصل بعد هذه الإشارة إلى ضرورة الانطلاق-لتحقيق أي عمل،ثقافيا كان أم سياسيا أم اقتصاديا…- من الفكرة الدينية.
لماذاالفكرة الدينية؟
إن أي عمل ثقافي أو اجتماعي أو ينطلق لامحالة من فكرة دينية معينة، ويعكس لا محالة تصورا دينيا بعينه، لهذا لابد أن نستحضر- نحن المسلمين- الفكرة الإسلامية أثناء قيامنا بعملية التغيير،ذلك لأن:”الفكرة الدينية تحدث تغييرها حتى في سمت الفرد ومظاهره حين تغير من نفسه، وبذلك يكون لمنهج التربية الاجتماعية أثره في تجميل ملامح الفرد، أي أن مجموعة من الانعكاسات تؤدي إلى خلق صورة جديدة، كأنها تتمثل في وجه جديد”(18).
و يخلص مالك بن نبي إلى فكرة تجعلنا نجيب عما إذا كانت هناك علاقة بين ما هو اجتماعي وبين ما هو ثقافي ، وذلك من خلال حديثه عن فعالية عالم الأشخاص وضرورة تآلف الأفكار والأشياء في تركيب معين لتتحول إلى عناصر ثقافية”فعالم الأشخاص لا يمكن أن يكون ذا نشاط اجتماعي فعال إلا إذا نظم وتحول إلى تركيب”(19).
بمعنى أن الفرد خارج هذا التركيب الاجتماعي سيكون منعزلا عن كل ما يدفعه للتفاعل مع ما يحيط به من أفكار وأشياء وثقافات لأن”الفرد المنعزل لا يمكن أن يستقبل الثقافة، ولاأن يرسل إشعاعها”.
هذا فيما يتعلق بالتركيب الذي لابد لعالم الأشخاص أن يخضع له، أما فيما يتعلق بعالم الأفكار وعالمالأشياء فيقول مالك بن نبي”فإذا ما اتجهنا إلى المجال الاجتماعي وجدنا أن الأفكار والأشياء لا يمكن أن تتحول إلى عناصر ثقافية إلا إذا تآلفت أجزاؤها، فأصبحت (تركيبا)،فليس للشيء المنعزل أو الفكرة المنعزلة معنى أبدا”(20).
وارتباط ما هو ثقافي بما هو اجتماعي يتجلى أيضا في الفرق الذي قدمه مالك بن نبي بين العلم والثقافة، وكيف أن الثقافة منبعها الحياة الاجتماعية، وكيف أنها تخلق بيننا علاقات اجتماعية:”فليست الثقافة سوى تعلم الحضارة-أي-استخدام جميع ملكاتنا الضميرية والعقلية في عالم الأشخاص، وليس العلم سوى بعض نتائج الحضارة، أي أنه مجرد جهد تبذله عقولنا حين تستخدم في عالم الأشياء. فالأولى تحركنا وتقحمنا كلية في موضوعها، وأما الثاني فإنه يقحمنا في مجاله جزئيا، والأولى تخلق علاقات بيننا وبين النظام الإنساني، والآخر يخلق علاقات بيننا وبين نظام الأشياء”(21).
وعلى هذا، الخطوة التي تلحق تغيير القوم من أخلاقهم- وحتى نحقق علاقات اجتماعية على أسس صحيحة- هي العمل على التغيير من الثقافة المتداولة حاليا، حتى تصبح ثقافة بانية، لها دور فعال في إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية القادرة من خلال”عالم الأشخاص”القيام بـ”عالم الأفكار”و”عالم الأشياء”، وأن نعمل أيضا على تعليم الإنسان المسلم”فن الحياة”مع غيره، لأنه ليس مهما أن نعلمه كتابة شيء جميل أو قول شيء جميل وهو جاهل بفن التعامل”أو التعايشمع غيره، ومالك بن نبي يطلق على هذا “الفن” nفن الحياة-وأسماه أيضا بـ”التحضر”يطلق عليه اسم “ثقافة” وإن كان معناها قد عرف تحريفا وتشويها.
فالثقافة تحتوي على “الأخلاق، والجمال، والمنطق، والصناعة الفنية”ولكن الإشكال لا يكمن فيما تحتويه الثقافة، وإنما يكمن في كيفية استيعاب هذه المحتويات، وعلى حد قول ابن نبي:”كيف ينبغي أن ندركها-هذه المحتويات- في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، في ظروف نفسية وزمنية معينة، أو لإبقاء الإنسان المتحضر في مستوى وظيفته الاجتماعية وفي مستوى أهداف الإنسانية “(22).
إن الذي ينقصنا إذن، ليس محتويات الثقافة ولا وسائل نشرها أو اكتسابها، وإنما الذي نفتقر إليه هو المنهجية والتخطيط أو ما سماه ابن نبي بالفاعلية.
قال زياد بن لبيد:”ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فقال:وذاك عند ذهاب العلم، فقلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم؟ ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم، فقال: ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء”(23).
ونعود إلى أمر آخر-سبقت الإشارة إليه- ويتعلق بجمود الفكر أو العقل المسلم، فتجمد الفكر يتسبب في تراجع كل المجالات الحيوية في المجتمع، وبالتالي “إذا ظل هذا الفكر متبطلا منعدم التأثير بقي النشاط حركة فوضى، وتزاحما يبعث على الضحك والرثاء، وليس هذا سوى شكل من أشكال الشلل الاجتماعي”(24).
لهذا علينا العمل على التأكيد على أن أي نشاط لا يمكن أن يتم بمعزل عن الفكر.
” فلكل نشاط عملي علاقة بالفكر، فمتى انعدمت هذه العلاقة عمي النشاط واضطرب، وأصبح جهدا بلا دافع، وكذلك الأمر حين يصاب الفكر أو ينعدم، فإن النشاط يصبح مختلا أو مستحيلا، وعندئذ يكون تقديرنا للأشياء تقديرا ذاتيا هو في عرف الحقيقة خيانة لطبيعتها، وغمط لأهميتها، سواء كان غلوا في تقويمها أو حطا من قيمتها”(25).
وهذان الشكلان من أشكال الخيانة يتمثلان في العالم الإسلامي الحديث في صورة نوعين من (الذهان):
< إما تسهيل الأمور إلى درجة الاستهانة بها.
< وإما تصعيبها إلى درجة الاستحالة.
وكلا النوعين يشكل الهوة التي سقطت فيها الأمة الإسلامية، وهذا الذهان قام – سواء في الجزائرأو في بلدان شمال إفريقيا، أو في بلدان العالم ككل كما أورد مالك بن نبي – على ثلاثة قواعد أو ثلاثة أساطير:
أ- أسطورة الجهل: واعتبارالأمية مشكلة اجتماعية وثقافية
1- أمية المتعلمين :
2- أمية الجهل بالقراءة والكتابة :
ب- أسطورة الفقر
جـ- أسطورة الاستعمار
خـاتـمــة
كانت هذه مشكلة من أهم المشكلات الحضارية:مشكلة التغيير الثقافي الاجتماعي، حاولت الوقوف عندها من خلال رؤية مالك بن نبي لها، وكيف أنه اكتشف فيها مواطن الخلل، وعمل على طرح مشروعه التغييري من أجل التغيير منها وفق رؤية إسلامية.
وقد بنى مشروعه على “الفكرة”، فإذا توفرت الفكرة السليمة الخالصة لا محالة ستؤتي عملية التغيير أكلها، أما إذا كانت الفكرة مشوبة بالغموض، وبرواسب ميتة أو محتوية على مضامين مميتة،فلن يكون هناك تغيير وبناء وإنما سيكون ركود وهدم.
وهذا ما سعيت إلى توضيحه من خلال الفقرات السابقة، إذ ركزت على الجانب الاجتماعي-عالم الأشخاص- والجانب الثقافي-عالم الأفكار- ومدى الدور الخطير الذي أصبح يلعبه هذا الأخير في التحكم في تسيير وتوجيه كل المجالات والعوالم التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية…ولقد أدرك ابن نبي هذا الأمر وكرس جهوده من أجل الكشف عنه حتى يصبح باديا للعيان والأسماع، وكذلك للأقلام عساها تتحرك في هذا الاتجاه: الكشف عن دور الفكرة في بناء المجتمع، وفي جل مؤلفاته-إن لم نقل الكل- كان يؤكد باستمرار على ضرورة توفر المجتمعات الإسلامية على عالم أفكار سليم وبان حتى تتمكن من إقامة صرح حضاري متكامل ينتج ولا يستهلك فقط-وكما قال مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة-”إن شراء المنتجات المادية لا يمكن من إنشاء حضارة لأن ذلك ليس إلا تكديسا يؤدي إلى “حضارة شيئية” فارغة من الروح والذوق والجمال.”
وحتى تكون لهذا المشروع التغييري نتائج طيبة علينا أن ننظر أولا هل فعلا الأساس -الثقافة أو الفكرة-الذي يقوم عليه هو أساس سليم أو لا؟
حيث مازالت الفكرة في مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من سلاح ذي حدين:
ـ الحد الاول: يتمثل فيما ورثه العالم الإسلامي من أفكار وثقافات، التي وإن صلحت في زمانها فإنها لم ولن تصلح في زمننا، لأنها أصبحت ميتة.
ـ الحد الثاني: الثقافة والأفكار المستوردة من “الآخر الحضاري”والتي زادت في تأزيم الوضع لأن النخبة التي قامت بنقلها غابت لديها عقلية التحليل لها والنقد لما تأخذه وكذلك غابت عقلية الإبداع والتجديد،فكانت هذه الأفكار مميتة.
لهذا-وحتى يكون التغيير شاملا-لابد من غربلة ثقافتنا وأفكارنا ليسقط الميت والمميت منها، ويبقى الصالح القادر على الاستمرار والمواجهة.
ولست أملك في الختام إلا القول بأنه لا بد من إعادة النظر فيما نأخذه من أفكار وفيما نقرأ، ليس عيبا أن نستفيد من التراكم الثقافي والمعرفي المخزون لدينا، وليس عيبا أن نستفيد من ثقافات الأمم الأخرى، ولكن العيب كل العيب أن نتقوقع في الماضي أو أن ننساق وراء جديد الآخر في كل شيء، وكلنا نعلم أن أعداء الإسلام استغلوا هذا الأمر لدى شعوب الأمة الإسلامية وكثفوا الجهود للدخول من هذا الثغر.
فأمتنا أحوج إلى من ينفض عن ثقافتها وحضارتها الغبار الذي تراكم عليها،وأملها في شبابها أكبر،خاصة وأن الصحوة الإسلامية بدأت تجتاح الساحة، وإن كنا نعلمأنها لم تقدم بعد الشيء الكثير في كل المجالات، ولكن بامتلاك “الفكرة “البناءة، والإرادة يمكن أن تحقق خيراً كبيرا رغم ما يخطط لها من خارج هذه الامة، لأن الله تعالى وعد عباده المؤمنين بأنه {متم نوره ولو كره الكافرون}”.
———————-
1- مالك بن نبي وصياغة المرحلة”سليمان الخطيب، مجلةرسالة الجهاد ص:127 عدد 94/1990.
2- وجهة العالم الإسلامي،مالك بن نبي،ص:85 ، ترجمة عبد الصبور شاهين ط5/1986-دار الفكر سوريا.
3- رؤية في منهجية التغيير،عمر عبيد حسنة،ص:8.ط1/1994 المكتب الاسلامي(بيروت،دمشق، عمان).
4- وصية مالك بن نبي:”إما أن نغير وإما أن نغير”، مجلة العالم، ص:50، العدد:244/1988
5- ميلاد مجتمع: مالك بن نبي ص:39، ط2/19745
6- نفسه، ص:40.
7- نفسه،ص:40 .
8- نفسه، ص:41.
9- نفسه ص: 42.
10- ميلاد مجتمع،ص:34.
11- نفسه ص: 35.
12- نفسه،ص: 28.
13- نفسه، ص: 86.
14- ميلاد مجتمع:ص:45.
15- ميلاد مجتمع،ص:73.
16- طريقنا إلى الحضارة،راشد الغنوشي،ص19.
17- ميلاد مجتمع،ص:73.
18- نفسه ص 34.
19- مشكلة الثقافة، مالك بن نبي،ص:53.ترجمة عبد الصبور شاهين تصوير 1989، دار الفكر سوريا.
20- نفسه،ص:63.
21- ميلاد مجتمع:ص:90.
22- نفسه، ص:94.
23- أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن كثير في تفسير المائدة-آية 63-”(و)استشهد به جودت سعيد على استسلام الأمة للوهن في كتابه السابق الذكر.
24- وجهة العالم الإسلامي،ص:88.
25- نفسه،ص:87.
ذة. نادية المديوني
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم