لماذا كان الحج ميلادا جديدا؟
الحج فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه الخمسة التي بني عليها، ودعامة من دعائمه التي قام عليها، وشعيرة من شعائره الظاهرة التي تتجلى فيها مظاهر الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية وقوة الإسلام العددية والروحية والتنظيمية وتذوب معها كل الفوارق الطبقية والاجتماعية والعرقية. وتتلاشى في أجوائها الروحانية أسباب الخلاف والشقاق، ودواعي النزاع والخصام. ولا يبقى معها إلا التعاطف والتراحم والتآخي والتفاهم والتسامح والتصالح والتعاون على البر والتقوى.
فرضه الله تعالى على هذه الأمة مرة في العمر رحمة بعباده ولطفا بهم وإكراما لهم وتفضلا منه عليهم، وأودع في شعائره ومناسكه من الألطاف والحكم والمعاني والأسرار ما يضمن تحقيق مصالح العباد ومنافعهم الدينية والدنيوية العاجلة والآجلة الاجتماعية والاقتصادية. سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الحكمة في أفعال الحج وما في المناسك من المعاني اللطيفة فقال: ليس من أفعال الحج ولوازمه شيء إلا وفيه حكمة بالغة ونعمة سابغة ونبأ وشأن وسر يقصر عن وصفه كل لسان. وقد نبه القرآن الكريم على هذه المنافع والمصالح في قوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}، منافع هكذا بصيغة منتهى الجموع وليست منفعة واحدة أواثنتين أوثلاثا..بل منافع لاتعد ولا تحصى.
دعاهم الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه إلى زيارة بيته والتشرف بالدخول لحرمه، أحب البقاع إلى الله ورسوله، كما قال ، وأول البيوت كما قال الله تعالى : {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}، مهبط وحيه على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه ورسله. مسقط رأس نبيه ومولد دينه ومنبع شريعته، موطن ذكريات خليله إبراهيم، ونبيه إسماعيل، عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.دعاهم للالتحاق بتلك البقاع المقدسة والأماكن المطهرة للذكرى والاعتبار ويسبغ عليهم من جلائل نعمه، وفضائل كرمه، ليغفر ذنوبهم ويكفر آثامهم ويعتقهم من النار ويباهي بهم الملأ الأعلى، ويغيظ بهم الشيطان الرجيم وإبليس اللعين.
روى مالك في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما رئي الشيطان يوما هوفيه أصغر، ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة. وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر، قيل وما رأى يوم بدر؟ قال رأى جبريل يزع الملائكة وقال صلى الله عليه وسلم: ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وأنه ليدنوعز وجل ثم يباهي بهم الملائكة. يقول: ما أراد هؤلاء ؟
والحج في تركيبه سلسلة طويلة من التكاليف الشاقة والعبادات المرهقة. والشعائر المضنية تضطلع بأعبائها الروح والجسد. ويشترك في أدائها المال والبدن تبتدئ هذه السلسلة من التفكير في الحج، والاستعداد له، وتحضير النفقة اللازمة له. مرورا بالسفر ومتاعبه والإحرام ومحظوراته والطواف وزحامه والسعي ومشاقه.
والتنقل بين المشاعر ومصاعبه والرمي ومخاطره إلى طواف الوداع وفرحته، بالإضافة إلى ما يتخلل ذلك ويصحبه من الصلوات في المسجد الحرام التي تعدل الصلاة الواحدة فيه مائة ألف صلاة في غيره، ونحر الهدي والأضاحي التي تساوي كل شعرة منها حسنة والتي تقع دماؤها من الله بمكان قبل موقعها من الأرض كما روي عن رسول الله .
من هنا كان الحج من أفضل الأعمال وأشرف العبادات يضاهي الجهاد في سبيل الله أويقاربه بما اشتمل عليه من مجاهدة النفس وتحمل المتاعب والمشاق. والأجر على قدر النصب. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : >يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد ؟ قال: لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور<.
وقال : >والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أوحجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق<.
كيف يكون الحج ميلادا جديدا؟
من أجل هذا وغيره كان الحج كفارة للذنوب وطهارة للآثام وعتقا من النار، وميلادا جديدا لكل حاج بَر حجه، يعود منه كيوم ولدته أمه نقيا طاهرا مطهرا، دفن الماضي القريب والسحيق، وتحرر من أخطائه وآثامه، لا يسأل عما فات ولا يحاسب بما مضى، ولا يواخذ بها، قدم ذهبت الذنوب أدراج الرياح، ولم يبق لها أثر ولا خبر ولا صغيرة ولا كبيرة محاها الحج المبرور، وكفرتها مناسكه وشعائره، وطوحت بها تقوى الله، ورمت بها مع الجمار كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
قال الله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى}. قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في معنى هذه الآية إن الله يغفر للحاج جميع ذنوبه سواء تعجل أوتأخر.
وقال : >من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه<( رواه البخاري) وفي رواية الترمذي: >غفر له ما تقدم من ذنبه<.
وقال : >تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كماينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة<(رواه الترمذي).
وفي حديث ابن عباس مرفوعا: >إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك<.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي بين ظاهرة ومصرحة بتكفير الحج للصغائر والكبائر وإسقاط التبعات.
وبذلك يكون الحج ميلادا جديدا حقا. يولد فيه الحاج من جديد، ويهب له الحج عمرا ثانيا، وحياة جديدة، يستقبلها بصفحة بيضاء نقية، كما يستقبل كل طفل ومولود حياته ومستقبله، لا سوابق تخفيه، ولا ماضي يحزنه، يستطيع في كل سنة وفي كل موسم من مواسم الحج أن يجدد ميلاده وحياته، يطوي صفحة من عمر دنستها الخطايا والذنوب، ليبدأ صفحة أخرى بيضاء ناصعة. وصدق رسول الله حين نصح أمته بمتابعة الحج والعمرة والمواظبة عليهما والإكثار منهما في الحديث السابق فإن الإنسان ضعيف أمام شهوات نفسه، خطاء بطبيعته في حاجة دائمة إلى عملية دورية لتطهيره وتنقيته من آثامه وأوزاره التي يقترفها خلال عامه، كما يحتاج بعض المرضى لمراقبة دائهم ومعالجة مرضهم كما يداوم آخرون على الاستجمام لتنظيف أجسامهم وأبدانهم.
ولكن متى يكون الحج ميلادا جديدا وتجديدا للحياة؟
الحج لا يكون مبرورا وكفارة للذنوب وتجديدا للحياة، إلا إذا توفرت فيه شروط لخصها الحديث الشريف في ترك الرفث والفسوق في الحج وجمعها القرآن في كلمة واحدة هي كلمة التقوى في قوله تعالى: {لمن اتقى}.
والتقوى في الإسلام تعني الشيء الكثير، فهي تعني أولا الاستقامة والطاعة التامة لله ولرسوله، وامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما، والتزام أحكامهما والوقوف عندها، وعدم تجاوزها في السر والعلن والحضر والسفر وخاصة محظورات الحج، فلا يجامع امرأة ولا يقبل ولايباشر ولا ينظر بشهوة ويغض بصره عن النظر ولا يفكر في ذلك، ولا يقتل صيدا ولا يلبس مخيطا. ولا يقلم ظفرا ولا يحلق شعرا ولا يمس طيبا ولا يرتكب حراما حرمه الله، ولا يفعل معصية نهى الله عنها، ولا يترك واجبا من الواجبات، ولا فرضا من الفرائض التي فرضها الله، وخاصة فرائض الحج وواجباته، ويكف لسانه عما لا يحل له من الغيبة والنميمة، والشتم والسباب والكلام الفاحش والاستهزاء بالناس والسخرية منهم.
والجدال بالباطل والخصومة في غير حق، والكذب في الحديث وإشاعة الأخبار الباطلة والتنابز بالألقاب والخوض في الباطل والقول على الله بغير علم. فإن هذه الأشياء حرام على الدوام، وهي في الحج أشد تحريما، وأكثر إثما.
قال تعالى: {لا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب} وقال أيضا: ( لا يغتب بعضكم بعضا) وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم}وقال: {ولا يسخر قوم من قوم}.
وقال : >سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر<(متفق عليه).
وقال: >إن الله لا يحب الفاحش المتفحش، ولا الصياح في الأسواق<(رواه البخاري في الأدب المفرد).
وقال: >ليس المومن بالطعان ولا اللعان ولا الفحاش ولا البذئ<(رواه الترمذي).
والتقوى تعني ثانيا: أن يكون الحاج مثالا للمسلم الحق، والمومن الصادق، متحليا بمكارم الأخلاق، متمسكا بها حريصا على الالتزام بها، في حركاته وسكناته، في معاشرته لرفاقه، ومعاملته لإخوانه وجيرانه وجميع الناس من حوله، متواضعا معهم، صبورا على ما يمكن ان يصدر عنهم، أويلقاه أويراه منهم، أويسمعه مما يكرهه أولا يعجبه، متعففا عما في أيديهم بشوشا معهم وفيا لهم، فإن مكارم الأخلاق من تمام الإيمان، وكمال الدين، وطريق الجنة وباب من أبوابها الموصلة إليها وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة، سئل رسول الله : >ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال تقوى الله وحسن الخلق<(رواه الترمذي وابن ماجة). وروى البخاري في الأدب المفرد أنه قال: ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق. وقال : >خيركم إسلاما أحاسنكم أخلاقا إذا فقهوا<(رواه البخاري في الأدب المفرد).
وتعني ثالثا أن يكون برا بأصحابه رحيما بهم، عطوفا عليهم، لا يبخل بماله أوبدنه على من احتاج منهم لمساعدته، ولا يضن على أحد منهم برأيه، أونصيحته إذا التجأ لمشورته. أوإرشاده يأخذ بيد الضعيف منهم، ويخفف من معاناة الفقير، يعلم الجاهل ويذكر الغافل، ويرشد الحائر، يأمر المعروف وينهي عن المنكر، في حدود الشرع، وبالطرق المشروعة من دون غلوولا تزمت، صدوقا معهم في أقواله وأفعاله، لا ينافق ولا يساري، أمينا على ما ائتمنوه عليه من مال وأهل وسر، يحترم الجميع، ويحوطهم بعنايته ورعايته، يعفوعمن أساء منهم، ولا يجزي السيئة بالسيئة، فقد قال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، وقال: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}. وقال : >خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه. وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره<(رواه الترمذي).
وقال: المومن مرآة أخيه، والمومن أخوالمومن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه. رواه أبوداود.
د. محمد التاويل (من علماء القرويين)