تبدأ رحلة التغيير من الذات، وهي الأصعب مقارنة بمحاولة تغيير الآخر أو تغيير البيئة من حولنا. والمواقف التي يعيشها كل واحد منا يوميا كثيرة، سواء في البيت أو العمل أو التعامل مع مختلف فئات المجتمع من خلال المؤسسات التعليمية أو الإدارية أو التجارية. وسوف نركز الحديث في هذا المقال على بعض سلوكياتنا في بيئة العمل، لأن الوعي بالذات وإدراك أثر سلوكياتنا على الآخرين سوف يساعدنا على البدء في نسج شبكة من العلاقات البناءة والصحية مع الآخرين، ومن ثم نأمل في بناء مؤسسات مبدعة يديرها قادة ينظرون إلى المستقبل بأمل وتفاؤل. والقائد المبدع هو الذي يهيء الظروف للعاملين معه للتطور وتفجير طاقاتهم الفاعلة، وهو الذي يتحرر من حدود ذاته وهوى نفسه ومطامحه الذاتية، ويتحقق ذلك عندما يدرك درجة عالية من الوعي بالذات self awareness-، وهي الحجر الأساس للنضج النفسي والذكاء الاجتماعي. واحتراما لذكاء القارئ وبدلا من إلقاء محاضرة في السلوك السليم، اخترت نهجا آخر يقوم القارئ من خلاله بالدور الأكبر وينتقل من التلقي إلى التفاعل، وقد تقتضي القراءة فترات من التأني والتفكير. وهذا النهج يتمثل في مجموعة من العبارات يقوم القارئ بتأملها وتقرير الإجابة الصحيحة لها، وذلك من خلال التفكير في مواقف حقيقية في حياته الخاصة. وكلما كانت الأجوبة دقيقة، تمكن القارئ من تلمس جوانب حقيقية من شخصيته مما يسهل الطريق نحو إدراك أفضل للذات واتخاذ خطوات فعلية نحو التغيير. أما مجاملة النفس وعدم المكاشفة مع الذات فقد يزيد في البعد عن الحقيقة ولن يوصل إلى أي نتيجة بناءة.
تعرف على ذاتك
سمات شخصيتك تؤثر على زملائك في العمل والأشخاص الذين من حولك. تأمل هذه الأسئلة: هل يشعر الأشخاص الذين من حولك بالراحة في التعامل معك؟ هل يعتقدون أنك سهل الوصول أم أنك متقلب المزاج وصعب التعامل؟ أجب على الأسئلة التالية وتعرف على بعض الجوانب من شخصيتك.
فكر في السلوك الغالب على تصرفاتك و ضع “صحيح” أو “خطأ” في المكان المناسب. حاول أن لا تقرأ السطور التي تلي الاستبيان لحين الانتهاء من الإجابة على جميع الأسئلة.
1- عندما أواجه بعض المشاكل، أحرص على عدم إظهار غضبي للآخرين
2- مهما كنت مشغولا، أعامل زملائي وزبائني بلطف
3- أنا على استعداد لتأخير فترة استراحتي إذا طلب مني أحد المساعدة
4- أعامل الآخرين بلطف حتى إذا لم يعاملوني بلطف
5- أحترم جميع الزبائن
6- أتجنب الرد على الآخرين بعنف وازدراء مهما قال لي الآخرون
7- لست على استعداد للجدال مع الآخرين في العمل
8- في الغالب، أحب أن أستكشف أعمالا خارج نطاق متطلباتي الوظيفية
9- أحب أن أقوم بعملي بإتقان
10- أتعامل بروح ايجابية مع الجميع في العمل
11- أتصرف بإيجابية مع الآخرين حتى في أصعب أيامي
12- لا أدع مزاج الآخرين يؤثر علي
13- أشعر بالفخر لأني أستطيع التعامل مع الآخرين بسهولة
14- أنا شخص هادئ، مؤدب، ومن السهل التعامل معي
15- أعتقد أن الجميع يستحق الاحترام من الآخرين
16- أتجنب الأشخاص السلبيين حتى لا أساهم في مزيد من السلبية
17- أستطيع أن أنجز أعمالي فقط عندما يكون مزاجي جيدا
18- لا أستطيع تغيير ما أفكر فيه
19- لا أستطيع تغيير ما أحس به
20- الآخرون هم المسئولون عن لحظات حزني ومزاجي السلبي
عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة: حاولوا عدم قراءة السطور التي تلي الاستبيان لحين الانتهاء من الإجابة على جميع الأسئلة.
مبروك!!! إذا أجبت بـ “صحيح” على العبارات من 1 إلى 16 وبـ “خطأ” على العبارات من 17 إلى 20، فأنت تستحق التهنئة لأن الأشخاص الذين تتعامل معهم يعتقدون في الغالب أنك تتمتع بشخصية ممتازة، ويتعاملون معك بارتياح ويرجو الجميع أن يكونوا مثلك. كما أن الزبائن يستمتعون بالتعامل معك.
إذا أجبت بـ “خطأ” على إحدى العبارات من 1 إلى 16، فعليك التفكير فيها بعمق. هل ترغب في العمل مع شخص لديه نفس الأجوبة؟ إذا أجبت بـ “نعم” على إحدى العبارات من 17 إلى 20، فإن زملاءك في العمل يرغبون في تغيير شخصيتك ليسهل التعامل معك.
إن الوعي بالذات هو الحجر الأساس للذكاء الاجتماعي، والذكاء الاجتماعي مجموعة من السلوكيات تتمثل في شخصية كل منا بدرجات مختلفة. ونعرض هنا لبعض خصائص الذكاء الاجتماعي:
1- القابلية للملاحظة observable: أي أن سلوكياتنا يراها الآخرون ويتأثرون بها إيجابا أو سلبا. والأهم هنا أن تأثر الآخرين بسلوكياتنا لا يميز بين صغير الأمور وكبيرها. فالكلمة الصغيرة لا نلقي لها بالا ترفعنا أو تهوي بنا سبعين خريفا كما ورد في الحديث. وقد تقوم أخت محجبة بإماطة الأذى عن الطريق مثلا فيرى ذلك زائر غير مسلم فتترك عنده انطباعا قد يستمر لسنوات لأنه ربط بين الحجاب وبين السلوك الذي رآه، فالأخت لا تحتاج لإلقاء محاضرات عن الإسلام لأن السلوك قابل للملاحظة وهو اللغة الاجتماعية التي من خلالها يتحدث الفرد إلى المجتمع ويخاطب المجتمع من خلالها العالم.
وفي بيئة العمل، يدرك كل منا سلوكيات الآخرين ونلاحظها يوميا، ومع مرور الوقت نصبح قادرين على توقع ردود أفعال الآخرين. فكلما زاد وعينا بسلوكياتنا وأثر ذلك على الآخرين، زاد ذكاؤنا الاجتماعي نموا لأننا أصبحنا قادرين على حسن إدارة علاقاتنا مع الآخرين. فلنتخيل أنفسنا وجميع الموظفين في مؤسساتنا، سواء العامة أو الخاصة، ننسج علاقات عمل سليمة وصحية في ما بيننا، هل يشك أحد أن الإنتاجية سوف ترتفع وأن الغياب غير المبرر عن العمل سوف يقل، وأن الأمانة والإتقان في العمل سوف يزيدان؟ فالمدير أو القائد الذكي اجتماعيا يصبح دوره الأول خلق أجواء في العمل يغلبعليها التعاون والتناصح، والتواد والتراحم. أما دور المدير الحازم الذي بدخوله إلى المكتب يخاف الناس، والذي همه الأول هو إدارة الميزانية وتحقيق الأرباح ومنافسة السوق، فإن هذا الدور قد ولى زمانه لأن المؤسسات تنجح عندما تبني استراتيجياتها على نجاح موظفيها، فإذا نجح الموظفون وتطوروا، تتحقق الأرباح ويصبح للمؤسسة قدم السبق في مجالات عديدة بفضل مواردها البشرية الناضجة والمبدعة.
2- القابلية للقياس measurable: أي أن سلوكياتنا يمكن أن تقاس زيادة أو نقصانا، فمن الممكن أن نقول عن أحمد أنه متعاون جدا وأن المواقف التي تمثل فيه هذا السلوك كثيرة ومتعددة وأنه أبدى تعاونا في مشروع أ ومشروع ب، غير أنه إذا واجه حالة من الخلاف في الرأي يغضب ولا يحسن معالجة الموقف. فالسلوكيات التي يتجسد فيها الذكاء الاجتماعي ليست ضربا من الملاحظات العامة دون أساس، بل هي شيء ملموس يستطيع الآخرون ملاحظته وقياسه. فالمدير أو الموظف الذكي اجتماعيا يقوم بتقويم سلوك الآخرين مستشهدا بسلوكيات مشهودة observable وقابلة للقياس measurable، فلا تصبح ملاحظاته فيها من العمومية ما لا يفيد الآخرين. وكل ما كان التقويم قائما على سلوكيات مشهودة وقابلة للقياس، زادت مصداقيته وفرص الأخذ به. والاستبيان الذي قمتم عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة بتعبئته يؤتي نتائجه كاملة إذا ربطنا كل عبارة بمواقف حقيقية في العمل أو الحياة عموما، ونحاول أن نعكس السلوك الغالب علينا في مثل تلك المواقف. وللقياس فائدة أخرى ترتبط بالخاصية الثالثة للذكاء الاجتماعي والتي نوردها الآن.
3- قابل للتطوير can be developed: وهذه بشرى سارة لنا جميعا لسببين. السبب الأول أن القابلية للتطوير تبعث فينا الأمل فنعمل على تحويل اليأس إلى خطة عمل واستبدال التبريرات والافتراضات عن أسباب فشلنا بمجموعة من الأسئلة التحليلية التي نشارك جميعا في الإجابة عليها. فبدلا من استمراء ثقافة اللوم الذاتي وإلقاء اللوم على الآخرين، يصبح هدفنا جميعا تحديد مواطن النقص في المهارات deficits skills ووضع خطة عمل لسد هذا النقص بالتدريب المناسب والتطوير اللازم. السبب الثاني أن مفهوم القابلية للتطوير يغير تماما طبيعة علاقتنا مع الآخرين، فيصبح كل واحد في نظرنا قابلا للتطوير بدلا من إصدار حكم نهائي ومؤبد عليه أنه خطاء وأنه ناقص عاجز ولا فائدة ترجى منه. فكل إنسان لديه مهارات ومعرفة وخبرات، وتختلف زيادة ونقصانا من شخص لآخر. وسلوك كل إنسان هو نتيجة لهذه المهارات والمعرفة والخبرات. وفي هذا الاختلاف فرصة لنسج مجتمع فيه من العطاء والتلقي مالا يدع الفرصة للوم أو الانتقاد. فالناس إما ماهر معطاء أو متعلم على الدرب يسير. والهدف واحد موحد: أناس أذكياء اجتماعيا يعملون على تغيير أنفسهم، يسيرون نحو تغيير المجتمع لتحقيق رسالة إعمار الأرض.
وعندنا في مفهوم التوبة مدرسة كاملة في تطوير الذكاء الاجتماعي، فإذا نظرنا إلى الآخرين على أن لديهم القابلية للتطوير وأن كل ابن آدم خطاء وأن خير الخطاءين التوابون، أصبح محور تفكيرنا تطبيق خطة العمل لسد مواطن العجز في المهارات الاجتماعية بدلا من الإغراق في الانتقاد المدمر والغيبة التي تخرب كل نسيج اجتماعي سليم. فالله تعالى تواب يتوب ويمهل، وهو رب يربي وييسر فرص التطوير حتى من خلال حالات الابتلاء.
فبيئة العمل قابلة للتطوير وكل يوم جديد يطلع علينا فيه من الفرص مالا نستطيع أن نحصيه، فإذا أدركت من خلال الإجابة على الاستبيان مثلا أني مزاجي وأني لا أنجز الأعمال بدقة، أضع لنفسي خطة عمل تساعدني على تطوير نفسي وسد العجز في هذه المهارات. فمهاراتي قابلة للتطوير والأولى أن أبدأ في التغيير مبكرا قبل أن يستفحل الأمر وأركن إلى اليأس والفشل.
لعلكم أخيالقارئ/أختي القارئة وقفتم وقفة مكاشفة مع الذات من خلال هذه الرحلة، ولعل هذه أول خطوة نحو التغيير. وهناك جوانب أخرى تتعلق بتغيير الذات والخطوات الفعلية التي علينا أن نتبعها لتحقيق أهدافنا وأحلامنا وندخل في زمرة الناجحين في الحياة، وسيكون ذلك موضوع مقالات في المستقبل القريب: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11).
————-
د.فؤاد ميموني
البنك الاسلامي للتنمية -جدة-السعودية.