إن أي ممارسة إنسانية لا تسبقها معرفة نابعة من القراءة الواعية تظل غير راشدة، وساقطة من السلم الحضاري المستند إلى العلم والمعرفة. و” الدين الذي يبدأ كتابه الكريم بكلمة “اقرأ” لا يمكن أن يكون إلا دينا معرفيا، أي أنه يفتح صدره للنشاط المعرفي على مستوى الكون والعالم والوجود لتأكيد القناعات الإيمانية من جهة، ولتعميق الوفاق بين الإنسان المؤمن وبين العالم الذي يتحرك فيه”(1). وبغض النظر عن أهمية “اقرأ” في حياة الأمة على مر عصورها الذهبية، وفاعلية عملية القراءة في ازدهارها، فإن بناء الشخصية الإسلامية لن يرتفع إلا بتنقية الفضاء الذي يسبح فيه فعل القراءة في واقع الأمة، القراءة المحركة للإبداع والعطاء ، وليست الدافعة إلى الاستهلاك والتبعية والتقليد. والتقصير في الوعي بأهمية القراءة سقوط فظيع في الفشل الحضاري، وعجز مؤلم عن التفاعل مع دعوات القرآن المتكررة للقراءة والتبصر {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آياتٌ لقوم يعقلون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}(الجاثية : 3- 6)، وتفريط في الاغتراف من منابع القراءة الثر {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم}(لقمان : 27). وبخاصة إذا علمنا بأن لفظة “العلم” الذي لا يقوم إلا بمفهوم القراءة، وردت مرادفة للفظة الدين في آيات كثيرة، وكأن الله عز وجل ينفي أن يكون هناك دين بدون علم أو قراءة متبصرة.
وحقيقة إن دين الإسلام يبنى على المعرفة والقراءة أمر تناسته الأمة فغرقت في الجهل، وانحرفت عن مجرى العلم واستخدام العقل ودراسة الكون والإنسان، ووعى غيرها بأهمية القراءة والمعرفة، فانطلقوا في الآفاق يثيرون الأرض ويعمرونها، مبتدئين من حيث توقف أسلافنا العلماء، يقول تعالى : {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا}(الإسراء : 25)، ومستفيدين من الجانب المادي من المنهج الإسلامي، فاستطاعوا الوصول إلى كشوف ثورية ارتقت بالعلم نحو مراحل يمكن اعتبارها امتدادا للعلم الإسلامي، لكن بتصور مخالف عن التصور الإسلامي للكون والإنسان، فسادوا العالم بالقوة، لما جنح المسلمون إلى الضعف، وإلى عدم استثمار فعل القراءة في حياتهم.
ورصيد الأمة الإسلامية من عمليات القراءة متعددة، وذخائر الكتب القيمة والنادرة، ومن المخطوطات المحفوظة في الخزائن الخاصة والعامة في مختلف بلدان العالم لا يُعد ولا يُحصى، مما يمكن الاستفادة منه، واستنباط إيجابيته لإضاءة جوانب من حياتنا، واستلهامهلتوضيح عديد من مشكلاتنا، لمواكبة متطلبات الفكر الإنساني المعاصر، ولغرس نبتة القراءة في وعي الأمة، كي تعيد بناء شخصيتها بصورة صحيحة متحررة من السيطرة والتبعية. لكن قراءة التراث الفكري والثقافي الملائم للمرحلة الحضارية الراهنة تحتاج إلى فرز وانتقاء ونقد، فليس كل ما ورثناه من نظريات وأفكار العلماء في مختلف المجالات المعرفية مقدس لا يمكن المساس به. ولكن يجب إخضاعه للمنهج العلمي المستمد من القرآن الكريم القائم على الدليل والبرهان والنقد العلمي الرصين. كما تحتاج أيضا إلى تيسير عملية النقل من التراث وتحررها، لأن ” عملية نقل التراث إلى الأجيال المعاصرة ليست سهلة، فإن احتمال التحريف المتعمد للقيم التراثية يعتبر من أبرز الأخطاء التي اقترنت بما تم في هذا المجال، بسبب الغزو الثقافي الذي تعرضت له أرض الحضارة الإسلامية، والذي أدى إلى إحلال قيم ثقافية جديدة تتصل بالحضارةالغربية ولا ترتكز إطلاقا على جذورنا الثقافية”(2).
———–
1- مدخل إلى إسلامية المعرفة. عماد الدين خليل. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. سلسلة إسلامية المعرفة (9). 1981. ص 18.
2- التراث والمعاصرة د. أكرم ضياء العمراني ص 36، سلسلة كتاب الأمة.
دة. أم سلمى