كلمة د. محمد يسف الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى :
نريد تعليماً يرقى بأجسادنا وعقولنا وأرواحنا وأخلاقنا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المصطفى الأمين وعلى آله وصحابته أجمعين.
سيدي الوزير:
هذه ثاني مرة يتاح فيها للعلماء أن يعربوا لسيادتكم عن عميق الامتنان وصادق العرفان، على ما تولونه من اهتمام وعناية لتعليمنا الأصيل.
كانت المرة الأولى بمدينة فاس منذ سنتين خلتا بمناسبة افتتاح اليوم الدراسي الأول الخاص بالتعليم الابتدائي الأصيل، وأصغينا يومئذ باهتمام بالغ إلى كلمتكم القيمة التي خلفت صدى حسنا في نفوس رجال هذا التعليم، وتلقاها كافة العلماء بالقبول والرضا، وضربتم لنا موعدا لم تخلفوه، ولقد شاء الله أن يتأخر الموعد قليلا، ولا بأس علينا -إن شاء الله -.
وها أنتم اليوم تنجزون وعدكم برئاسة أشغال اليوم الدراسي الثاني للتعليم الإعدادي والثانوي الأصيل؛ ونحن رجاء كلنا، وأمل كلنا أن تكون قومة هذا التعليم الذي ظلمه قومه، وخذلته عشيرته:
“وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند”
أملنا أن تكون قومة هذا التعليم من كبوته بأيديكم، فأنتم اليوم طبيب علله ومضمد جراحه.
وللتذكير والذكرى تنفع المومنين فإنه كان للعلماء أكثر من لقاء مع أكثر من وزير ممن تعاقبوا على هذه الوزارة من قبلكم، وجميعهم كانوا على مستوى جيد من المجاملة واللطف والقدرة على التخلص من أي التزام.
كانوا يقولون ولا يفعلون، ويعدون ولا يوفون، وهذا ملف التعليم بوثائقه ووقائعه، وبشواهده ومشاهده، شاهد صدق على المعاناة الطويلة، وعلى فداحة الشماتة والهوان، والإهمال والنسيان، حتى إنه ليخيل إليك أن هذا التعليم الذي تراهم ينفرون عند سماعه، ويفرون منه فرارهم من كل ذي داء خبيث قد أتى كبيرة من الكبائر التي تخلد مرتكبها في العذاب، أوجنى جناية أهدر بسببها دمه، وتبرأ منه قومه. وآيم الله لا نعلم لهذا التعليم، ولا لأهله ولا القائمين عليه إلا البرور والإخلاص لدينهم ووطنهم وأمتهم وحضارتهم، وإلا أنهم كانوا شوكة في حلق المستعمر الغاصب يقضون مضجعه ويقلقون راحته، كانوا للوطن جنودا وحماة، وعدة وسلاحا، وسيوفا ورماحا، وكانت معاهد العلم قلاعا للتربية على المواطنة الصحيحة، ومعاقل للتعبئة الشعبية.
كانت ثقافتهم المومنة، وعقيدتهم الصحيحة، وقودا يلهب حماسهم، ويغذي فيهم روح الشهامة والإباء والتضحية والاستشهاد من أجل التحرير والكرامة والعزة.
أفبمثل هذا الإذلال لثقافة الإسلام وللغة القرآن تقابل حسنات هذا التعليم وجهاد رجاله وأوليائه؟ وعلى يد من يجري تعذيبه وامتهانه؟ بيد بني أمه وأبيه. هذا في حين يمكن كل التمكين لثقافة ولغة من كان بالأمس القريب يسوم أهلنا ووطننا سوء العذاب، إن كان هذا عقابا فهو موجه ضد من؟ ولصالح من؟ وإن كان ثوابا، فهو لا بد أن يكون من جنس ثواب سنمار.
ولو أن ما يسام به تعليمنا الأصيل من خسف وهوان يتم على يد غير يدنا لتحملناه صابرين محتسبين، مقبلين غير مدبرين، ولكنه، وا أسفاه ظلم ذوي القربى وهو أشد أصناف الظلم وأقواها مرارة وألما،.
ومع كل ذلك، فإنه لا باس على تعليمنا، وليس كل بني قومنا لا يعلمون وستبقى هذه الأمة نابضة بالقوة والحيوية مليئة بالخير والغيرة على ذاتها وأصلها وفصلها ما دامت قادرة على إنجاب أبناء بررة يفعلون ما يقولون، وينجزون ما يعدون والظن بهم أنهم أكرم وأشرف، وأذكى من أن يستدرجوا إلى زلة إن سترها قلم تاريخ اليوم فإنه لا محالة سيفضحها غدا أو بعد غد :
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غدا لناظره قريب
فلنتجاوز كل محنة امتحن بها الصابرون، ولنغض الطرف عن تجاوزات حدثت لم تنل من عزيمة أهل العزم، والأمة مثل الأفراد قد يعتريها في مسيرتها وفي لحظات ضعفها شيء من الذهول حتى عن نفسها، وتتعطل لديها حاسة التمييز بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، ولكنها سرعان ما تستعيد وعيها، وتسترد ذاكرتها، فتستدرك ما فات، وتخلف ما ضاع، وتصلح ما فسد:
يغمى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وبعد، سيدي الوزير:
معذرة، إنها فقط نفثة مصدور وصيحة كظيم، وشكوى نرفعها إليك، وأنت اليوم في موقع من إذا قال فعل، وفي حسن الإصغاء إلى شكوى المريض نصف العلاج، ومن أجلها قالوا:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وأنت في مقام من لا يكتفي منه بالمواساة والتسلية فضلا عن التوجع، وإنما أنت مرجو للإنصاف ورفع الحيف وإزالة الضيم.
ومن أجل ذلك سعى إليك اليوم في رباط الفتح رجال هذا التعليم وحماته وسدنته، ومعهم علماء المغرب من شمال المملكة وجنوبها، وشرقها وغربها، كما سعوا إليك منذ سنتين خلتا بفاس في حشد كبير، ثقة بك، واطمئنانا إلى حزمك وصدقك، فلا تخيب فيك رجاءهم كما خاب في الذين كانوا من قبلك، وكن لقضية هذا التعليم، أبا حسنها، فلعل الله ادخر لك حسناتها وقد ضن بها على غير أهلها، لخير علمه فيك {والله أعلم حيث يجعل رسالاته}.
إنا لنرجو منك خيرا عاجلا
والنفس مولعة بحب العاجل
والذي نرجوه منك أيها الوزير، ليس منحة ممنوحة، ولا هبة موهوبة، ولكن الذي نرجوه منك حركة صادقة، وتوجه خالص مخلص لهذا التعليم، بتسريع وتيرة إصلاحه، واستدراك الفوائت من حقوقه، وتيسير سبل انطلاقه حتى يستطيع مواكبة الإصلاح، ويستوي قائما على قدميه، صحيحا غير كسيح.
إن الميثاق الوطني للتربية والتكوين لم ينس الإشارة إلى أصالة التعليم الأصيل، واستوصى به خيرا وكان على الكتاب الأبيض أن يسمو إلى أفق الميثاق.
غير أن حظ التعليم الأصيل منه كان باهتا ومشهده بئيسا ، بالرغم من أنه انخرط انخراطا كاملا في المنظومة التعليمية بشروطها العلمية واللغوية والتقنية، بما هي عليه من تطور زائد المحافظة على أصالته وخصوصيته، وعلى رسالته الخالدة وتتمثل في حماية هوية الأمة وانتمائها التاريخي والحضاري وارتباطها بمحيطها أرضا وبشرا، فحمولته ومسؤولياته أثقل من غيره، وإمكانياته ووسائله وآليات اشتغاله في منتهى التواضع والتقشف.
إن كل يد تمتد بالخير إلى تعليم الأمة عنوانِ وجودها واستمرارها ما هي إلا لبنة في إعلاء صرح الأمن والاستقرار، وصيانة الوطن والمواطنين من الفتن ومن الغلو والتطرف، وتحقيق حياة هادئة مطمئنة، تفتح أمامه باب التقدم والازدهار على مصاريعه.
سيدي الوزير:
إنه لا خير في تعليم هدفه خدمة الجسد والانشغال عن تنمية المدارك، وصقل العقول وتعميق الوجدان فبالعقل والروح يتميز الإنسان عن السوائم والأنعام:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
نريد تعليما يرقى بأجسادنا وعقولنا وأرواحنا وأخلاقنا، وتعليم من هذا القبيل ووفق هذه الوصفة لا يمكن استنساخه أو استيراده كما تستورد البضائع والسلع. وإنما نصنعه هنا بأيدينا وعلى أعيننا، ولا ضير علينا في أن نستأنس بتجارب الآخرين لا أن نتخذها سلما نرتقي فوقه، فسلم ارتقائنا لا بد أن يكون من صنع أيدينا، وخبرة خبرائنا، ولا بد أن يكون ممزوجا بأريج هذا الوطن ونسيم جباله وسهوله وحواضره وبواديه.
سيدي الوزير:
باسم العلماء أحيي نشاطكم الدائب، وحركتكم الموصولة التي نشهد لها في كل ركن وزاوية أثرا، ويود العلماء أن يكون لهم مكان مناسب ونصيب ضمن الأجهزة التي تقيمونها واللجن التي تشكلونها للإسراع بعملية التطوير والتجديد التي يراهن عليها وطننا بقيادة أمير المؤمنين مولانا محمد السادس، ولكم علينا أن نكون فاعلين أمناء نصحاء مخلصين في الأداء {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم}.
ومرة أخرى نحييكم من هـذا المنبر، تحية ملؤها التقدير والإكبار لتشريفكم هذا اليوم الدراسي برئاستكم لأشغاله، ثقة منكم بدوره في بناء الإنسان السوي الذي يخطو نحو المستقبل بإيمان راسخ، وهو يجر وراءه من ميراث الآباء والأجداد مجدا خالدا وتراثا تالدا، جامعا بين المحافظة والمعاصرة وبين القديم والجديد، وسنواصل معكم رحلة الإصلاح والتطوير حتى تحقق أهدافها وتبلغ بإذن الله وعونه مقاصدها وغاياتها.
والله ولي التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير.