قد يكون من الضروريات الملحة في زمن العولمة وتداخل الثقافات وتمييعها التأكيد على اعتبار الإسلام منظومة متكاملة وشاملة ومتراصة، منذ الرسالة الربانية الأولى التي نزلت على الأرض، مرورا بالرسالة الخاتمة مع محمد يجد فيه الباحث عن الحقيقة ضالته، كما يجد حلا لمشكلاته، وجوابا لأسئلته في مصدريه القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة .وهذه الحقيقة كثيرا ما تغيب عنا، والتي يمكن أن تشحذنا بطاقات روحية تعيننا على الصمود والتحدي ورغبة التغيير إذا استحضرناها ووعيناها فعلا. فنستطيع إعادة الاعتبار للذات الحضارية وإعطائها صورتها الحقيقية بعد أن تعرضت للمسخ والتشويه، وإعادة الثقة بالعناصر والمقومات الذاتية للأمة، والقضاء على النقص وروح الانبهار التي وقع في أسرها فئات متعددة منها.وهذه ليست أماني ولا أحلاما عائمة, وإنما لها صور واقعية على امتداد التاريخ الإسلامي. فقد استطاع الإسلام أن يكوّن أمة مسلمة منذ اللحظة الأولى التي هاجر فيها رسول الله إلى المدينة، وامتد وجود تلك الأمة الإسلامية إلى وقتنا الحاضر, رغم ما اعتراها من خلل وهبوط في بعض المراحل كما هو الآن. فما هي هذه الأمة التي تنتسب إلى الإسلام، وهل ما زالت تمتلك في داخلها مقومات النهوض والارتقاء بأفرادها إلى مدارج العزة والكرامة؟؟
الأمة لغةً تعني الدين والطريقة، فيُقال: فلان لا أمة له أي لا دين له. كما تدل الأمة عند العرب أيضًا على النعمة والعيش الحسن. والأمة تعني كل جماعة بشرية، وكذلك كل جنس من الحيوان والطير. ووردت كلمة “أمة” في القرآن الكريم بمثل هذه المعاني المعبرة عن دلالات الوحدة والتجمع على شيء معين. يقول تعالى : {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}(النحل : 93). أي على دين واحد. ويقول تعالى : {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}(القصص : 23). أي جماعة من الناس يسقون أغنامهم.ويقول معبرا عن القوم :{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}(النحل : 92) أي أن يكون قوم أكثر من قوم.ويقول تعالى مخبرا عن قوم محمد الذين كفروا به {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٍ}(الرعد : 30).لكن الله تعالى أفرد الأمة الإسلامية بصفات تميزها عن غيرها من الأمم، بعد التعريف الذي جاء في عدد من السور، الذي يعلن أن أمة جميع الأنبياء هي أمة واحدة، في مثل سورة الأنبياء، فتحدثت عن معظم الأنبياء السابقين كموسى وهارون وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وذكرت طرفاً من سيرتهم، وحياتهم، ومواقفهم، وعبادتهم، ودعوتهم، وصراعهم مع الباطل، وصبرهم على أذى الكافرين، وفضل الله عليهم، و عقّبت بعد ذلك بآية يقول تعالى فيها : {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}(الأنبياء : 192) .
كما تحدثت سورة أخرى هي “المؤمنون” عن عدد من الأنبياء هم : نوح وهود وموسى وهارون وعيسى عليهم السلام ثم قال الله تعالى بعد ذلك : {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}(المؤمنون: 51- 52) . فمثل هذه الآيات تأتي بمفهوم معين للأمة تصب دلالاته على اجتماعها على التوحيد والوحدة والتقوى، وعلى الارتباط بالأمم السابقة وتشكيل أمة واحدة معها, الأمر الذي حقق لها سعة في الزمان وامتداداً في المكان، وجعلها تتفاعل مع ما قبلها وتستوعبه دون إحساس بالغربة، وهذا الامتداد التاريخي لم يبق شعوراً مبهماً بل تجسد في قواعد وأصول منها القاعدة الأصولية التي تعتبر شرع من قبلنا شرع لنا.
ومثل هذه التعريفات والدلالات نجدها تقوم على دعائم أساسية، لعل أبرزها دعامة الشهادة على الناس، يقول عز شأنه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوْا شُهَداءَ عَلَى النَّاس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(سورة البقرة). تبين الآية السابقة أن الله -تعالى- جعل الأمة الإسلامية أمة وسطاً لعلّة وحكمة هي أن تكون قادرة على القيام بأمانة الشهادة على الناس، والشهادة تقتضي العلم وتفتّح الوعي وتحقق الإدراك من الشاهد حتى يستطيع أن يقوم بأمانة الشهادة على المشهود عليه، كما تقتضي تبصير الناس بالأفضل والأحسن من خلال الدعوة الحسنة وتبليغ الرسالة الربانية . يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(آل عمران : 104). فهذا حض على القيام بأمر الدعوة . من هنا كانت خيرية الأمة نتيجة لأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِتَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(آل عمران : 110) وإذا انتفى مفهوم الخيرية عن الأمة ذهب طابعها المميز الذي يستطيع توحيدها، وإيجاد باقي المشترك لديها وتشتت انتماؤها.وتنفتح هاتان الدعامتان على فضاءات شتى, منها فضاء التعارف بين الشعوب والقبائل انطلاقاً من قوله تعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(الحجرات :13) . وقوله في حجة الوداع : >يا أيها الناس إن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط<، وهذا ما جعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً فريداً في الماضي,ويمكن أن يكون كذلك في الحاضر, عندما استوعب أجناساً وعروقاً وشعوباً وقبائل متعددة داخل كيانه، ليس هذا فحسب بل ساهمت هذه الأجناس والشعوب والقبائل في إقامة الحضارة الإسلامية بما وهبها الله – تعالى – من إمكانيات، وفي الدفاع عنها عندما تعرضت للتهديدات والتحديات.
كما تنفتح تلك الدعائم على فضاء الوحدة, فنجد بعض الآيات الكريمة تحث على التزام الجماعة والتجمع لما في ذلك من خير وفائدة على الفرد وعلى الأمة، يقول تعالى : {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}(آل عمران :103) .وقد رعت العبادات الإسلامية الجانب الوحدوي و الجماعي في حياة المسلم، وجعلته مهما، فلو أخذنا الصلاة التي هي الشعيرة الأولى والأهم بين الشعائر التي يؤديها المسلم لوجدنا أن الإسلام أوجب على المسلم أن يؤدي فرضها في جماعة على أرجح الآراء،مما ينمي جانب الالتزام الجماعي لدى المسلم، في حين أنه فضّل أداء السنن والنوافل منفرداً في البيت بعيداً عن أعين الناس، و ذلك تلبية الجانبين الجماعي والفردي في فطرة المسلم .
ولم يكتف الإسلام بتغذية الجانب الجماعي في حياة المسلم بسن التشريعات اللازمة له وفرض العبادات التي تؤدي إلى تنميته، بل زكّى الأخلاق المرتبطة به كالتضحية والإيثار، ونفّر من العزلة، وحثّ على مخالطة الآخرين والصبر على أذاهم، والإحسان إليهم، يقول تعالى موجّها المسلم إلى الإحسان وفعل الخيرات ابتداء من الوالدين مرورا بالأقارب والجيران إلى أن يصل إلى كل الإنسانية : {وإذ أخذنا ميثاقكم ألا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ….}(النساء، 36) .
كثيرة هي المعاني والدلالات التي يمكن استخلاصها من قراءتنا المتبصرة للقرآن الكريم, تؤكد لنا أننا اتخذنا هذا القرآن مهجورا حتى انغمسنا في الغثاء والوهن والهوان، بعد أن تعددت مصادر التلقي لدينا, ولم يعد مصدرنا الأول الكتاب والسنة اللذين ينبغي أن تأتي بعدهما باقي المصادر.ولم نعد فعلا نعي ونمارس {كنتم خير أمة..}.
دة. أم سلمى