عن أبي أمامة ] قال : أتيت رسول الله فقلت : مُرْني بعمل يدخلني الجنة. قال : >عليك بالصوم فإنه لا عدل له (أي لا مثل له) ثم أتيته الثانية، فقال : >عليك بالصوم<(رواه أحمد).
لكل شيء في حياة الإنسان إيحاء وذكرى، إيحاء يبعث في نفسه إحساساً خاصاً، ويثير في وجدانه معاني كثيرة، تتصل بمصدر الإيحاء وتنبثق منه، وذكرى تعود إلى الماضي البعيد، وتدعم الحاضر، وتنير طريق المستقبل، والذكرى تنفع المؤمنين. قال تعالى : {وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين}(الذاريات : 55) ورمضان وإن كان اسماً زمنياً لشهر معين من شهور السنة القمرية، إلا أنه له إيحاء عند المسلمين، تهتز له مشاعرهم، وتنشرح به صدورهم، وتسمو به نفوسهم إلى العلا من الكرامة والعزة. فرمضان شهر كريم على الله تعالى، رفع الله منزلته وسما بقدره، فلم يذكر شهراً من الشهور باسمه في القرآن إلا رمضان،واختاره الله عز وجل ليكون وعاء كريماً نزل فيه القرآن الكريم، كتاب الإنسانية الخالد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قال تعالى : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة : 184).
قال علماء الشريعة في حكمة فرضية الصيام في رمضان، إن رمضان شهر نزلت فيه هداية السماء إلى الأرض، فناسب أن يكون زمن عبادة ترتفع بها النفوس من شهوات الأرض إلى روحانية السماء، وتتخلص من نوازع المادة، ونداء الغرائز، إلى صفاء يحيي الروح، ويضفي على النفس الشفافية والرقة. وشهر رمضان مدرسة يدخلها الصائم شهراً في السنة يتدرب فيها على مكارم الأخلاق، وممارسة الخصال الحميدة التي تصلح بها الحياة. فمن الدروس التي يتلقاها الصائمون في رحاب مدرسة الصوم : المواساة والتراحم، فالأغنياء الذين قد يمضي بهم الدهر وهم لا يشعرون بالجوع، يدركون وهم صائمون كيف تشتد حاجة الفقراء إلى الطعام والشراب، فيخرجون من رمضان أسخى نفساً، وأندى كفاً، فلا يبخلون بالحق المعلوم للسائل والمحروم. كان رسول الله أكرم الناس، وأجود الناس، إن أنفق أجزل، وإن منح أغدق، وإن أعطى أعطى عطاء من لا يخشى الفقر. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : >كان النبي أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود الناس بالخير من الريح المرسلة<.
ومن الدروس التي يتلقاها المؤمنون في مدرسة رمضان : المساواة، فقد كتب الله الصوم على المكلفين القادرين جميعاً، ذكرهم وأ نثاهم، غنيهم وفقيرهم. قال تعالى : {ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 182)
قد يتناولالناس في غير رمضان وجبات الطعام في مواعيد تختلف باختلاف أحوالهم وظروف حياتهم، وقلّ أن يجتمع أفراد الأسرة الواحدة، على مائدة الطعام في وقت واحد، أما في رمضان فالصائمون جميعاً كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، حكاماً ومحكومين أغنياء وفقراء يتناولون طعامهم في وقت واحد، لا يتقدم ولا يتأخر. قال : >إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم<(البخاري).
ومن هنا يستقر في المجتمع الإسلامي خلق المساواة التي جاء بها الإسلام، والناس في نظر الإسلام سواسية أمام الحقوق والواجبات وفرص الحياة، فباب التنافس في عمل الصالحات مفتوح أمام الناس جميعاً، ينال أعلى الدرجات من سمت به همته، وقدمته كفاءته. قال تعالى : {ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(الحجرات : 13). وقال في خطبة حجة الوداع : >ياأيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب< وبذلك أذاب الإسلام الفوارق بين الناس، ومحا الطبقية -لا تميز بين أبيض وأسود، ولا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وفي مدرسة رمضان مجالات فسيحة للصفاء النفسي، والنشاط الروحي، وأعظم هذه المجالات وأغناها بالخير، تلاوة القرآن الكريم وتدبره، فرمضان شهر اختاره الله تبارك وتعالى، فأنزل فيه القرآن فهو معجزة خالدة، وحجة الله البالغة الخالدة، أنزله الله روحاً تحيا به القلوب والعقول، وتسعد به البشرية في جميع أطوار حياتها، ومدارج حضارتها.
نسأل الله أن يعيننا على صوم نقهر فيه نفوسنا، ونطهر به أرواحنا، ونشد به عزائمنا على بناء وطننا، والدفاع عن ديننا، وعلى ما فيه الخير لصالح أمتنا، ولا يسعني في هذا الشهر الكريم، وهو يحمل إلينا من الأفق البعيد، رياح النصر، وبشائر الغلبة والظفر، إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله القدير، أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يهزم الصهاينة المعتدين، وأن يحرر أرض العروبة والإسلام من الغاصبين، وأن يرفع منار الحق والدين. قال تعالى : {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}(الحج : 38)
ذ. حسني أحمد عاشور