أحداث الحادي عشر من شتمبر أقحمت العالم في واقع جديد للعلاقات الدولية، هذه العلاقات أصبحت قائمة على مبادئ جديدة غير منصوص عليها في سياق الأمم المتحدة، ومن هذه المبادئ : مبدأ الضربة الاستباقية ومبدأ فرض ما يسمى بالمشاريع التغييرية على بعض الدول، هذا التصور الجديد أفرزه واقع القطب الواحد وغذته أحداث 11/9 التي غيرت كليا تصور أمريكا لما يسمى بالخطر الخارجي. هذا الخطر كان في السابق (سواء كان نازيا أوشيوعيا) مجسما في دول محددة جغرافيا ولها جيوش نظامية معروفة الإمكانات والوسائل، أما اليوم فحربها ضد ما تسميه الإرهاب يعني مقاومتها لعدو تجهل عنه كل شيء : مكانه، عدده، وسائله، سلاحه، ومجال عملياته حتى التنبؤ بمكان ووقت ضرباته لا يقل تعقيدا عن تحديد مكان ووقت الهزات الزلزالية.
وأمام هذا الوضع ولتبرير حمايتها للعالم سعت أمريكا لإيجاد عدومجسم على غرار ما حدث في الماضي فاختارت الإسلام أومن يحمل عقيدته. وبذلك أصبح الضغط مركزا على العالم الإسلامي ليس فقط على الدول الإسلامية وإنما أيضا على الأقليات الإسلامية في كل البلدان، ولتبرير هذه الهجمة تم تسليط الضوء على الاتجاهات المغالية وخاصة التي تتبنى (العنف) كوسيلة للتغيير. كما تم استفزازها أوتحريضها لتزداد غلواً. هذا مع العلم أن النسبة التي يمثلها هؤلاء في الأمة تميل إلى الصفر.
هذا الضغط الذي يتحمله العالم الإسلامي تتفاوت درجاته من منطقة لأخرى ومن بلد لآخر. لكن العبء الثقيل لهذه الهجمة تتحمله الدول العربية كدول إسلامية. هناك دول إسلامية غير عربية لها هامش مناورة كبير في التعامل مع أمريكا وحلفائها، مثال ماليزيا، تركيا وحتى إيران، فمثلا تصويت البرلمان التركي ضد استخدام أراضيه من طرف القوات الأمريكية حظي باحترام الولايات المتحدة، ولا يمكن لأي برلمان أوحكومة عربية أن يقوم بذلك، وهذا ما يفسر تركيز الحملة على هذه المنطقة لأنها الحلقة الأضعف في العالم الإسلامي، ولذلك حظي واقع العالم العربي في موضوعنا باهتمام خاص.
والسؤال الذي يجب أن يطرح هولماذا ضعف هامش المناورة في هذه المنطقة إلى حد العجز التام؟.
أي دولة كيفما كانت تواجه تحديات خارجية. هذه التحديات ليست فقط عسكرية لكن قد تكون اقتصادية أوثقافية أوسياسية، ومواجهة التحديات تكمن في قدرة التفاعل الداخلي أوالقابلية للحفاظ على الذات إما باستيعاب التحدي الخارجي أوبرده ومقاومته، وفي حديثنا عن الدول يمكن أن نقول أن قدرة التفاعل الداخلي تتجلى في ثلاثة مجالات : المجال السياسي، المجال الاقتصادي والمجال العلمي.
أمام زخم التحديات الخارجية التي يواجهها العالم العربي، نتساءل : ما هي قدرة المجالات الثلاثة على إحداث تفاعإ إيجابي ينقلنا إلى دائرة الفعل ورد الفعل مع الإبقاء على خصوصية كياننا.
قبل تفصيل الكلام عن واقع هذه المجالات الثلاثة لا بد من الإشارة إلى أن المنطقة العربية تعد من الدول التي سجلت تخلفا لا مثيل له بالنظر إلى ما تزخر به هذه المنطقة من زخم حضاري كبير ومن موارد بشرية وطبيعية هائلة. وهذا التخلف يتجلى كما أسلفنا في المجالات التالية :
التخلف السياسي
الجانب السياسي يسعى لإيجاد أفضل الوسائل لتدبير وتنظيم الشأن العام وذلك لتحقيق مصالح الناس، وهذا التنظيم لا بد أن يقوم على ثلاثة مبادئ : الحرية والتنوع والشفافية. وهذه المبادئ تعتبر من أساسيات التشريع الإسلامي، أما الإطار المرتبط بنوع النظام والوسائل المتعلقة بالتمثيلية فمردها إلى اجتهادات السياسة الشرعية التي تختار أوتبتكر الأنسب وفق تقدم وتطور الآليات التنظيمية والتقنية والتواصلية. الجانب السياسي بالنسبة لمجتمع ما هوبمثابة العقل لجسم الإنسان، إذااختل تعطلت كل مقدراته. فاختلال النظم السياسية تؤدي حتما إلى تعطيل كل الفعاليات وإلى تعقيم كل إبداع، وعوض أن تسير الدول العربية مستنيرة برصيدها التاريخي في الخط الذي رسمنا معالمه سابقا اختارت أن تسير في الاتجاه المعاكس سواء بالنسبة لماضيها أوبالنسبة لمستجدات واقعها. في الوقت الذي استطاعت كثير من الدول أن تحسن أداءها السياسي بتبني المسار الديمقراطي ظهر في الدول العربية صنفان من التعامل مع الدمقراطية. الصنف الأول رفض الدمقراطية إما بالإبقاء على أنظمة دكتاتورية على غرار النهج الستاليني وإما بتبني أنظمة شمولية ذات عمق قبلي تقليدي يجعل الإسلام مطية لرفض مبدأ الدمقراطية وما يتبعها من فصل السلط ومن مؤسسات. الصنف الثاني حاول أن يلبس الدمقراطية لكن بعد إفراغها من كل محتوياتها الإيجابية. وبذلك لا يمكن أن نجد برلمانا عربيا واحدا يعكس الرغبة الحقيقية للناخبين.
فالتشكيلة النيابية للبرلمان في الوطن العربي لا تحدد بالاقتراع بل تصاغ وفق ما تقتضيه مصالح فئوية ضيقة. فهناك دول تتدخل (لتصحيح) المسار بعد الاقتراع. وهناك أخرى (متقدمة) تجري عملية التصحيح قبل الاقتراع إما بالضغط على الناخب وإما بالتواطؤ مع الأحزاب السياسية بحيث يسعى كل واحد منها لكسب الحصة المحددة له سلفا من الأجهزة الأمنية. وللأسف الشديد يمكن أن نعتبر الانتخابات العراقية الأخيرة التي أقيمت تحت الاحتلال الأمريكي هي أقل الانتخابات العربية سوءاً.
هنا يأتي مكمن الخلل في الوطن العربي، فعندما تطالب الحكومة العربية تحت الضغط الداخلي والخارجي بتبني النهج الدمقراطي ترفض بذريعة الخصوصية وتُبْقي على الوضع الشمولي الذي يحبس الأنفاس. وإذا ما عجزت هذه الحكومات وهي كذلك، عن إيجاد البدائل فهناك من هومستعد لتقديم البدائل وحتى فرضها إن اقتضى الحال، وهذا ما فعل بأفغانستان والعراق. وهنا يدخل على الخط مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهومشروع يرمي إلى الحجر على الدول العربية لأنها لم تبلغ سن الرشد السياسي لإدارة نفسها بنفسها.
ونتيجة لذلك يمكن أن نقول أن الوضع السياسي العربي في مهب الريح، فهوعلى مر العقود نهج أسلوباً أفقده كل مقومات الدعم الداخلي جعلته الآن عاجزا عن أية ردة فعل والآن بدأ يفقد سنده الخارجي.
وفي ختام الحديث عن الفشل السياسي العربي لا بد من كلمة في الدمقراطية، بغض النظر عن حمولتها الحضارية وبغض النظر عما يمكن أن تحمله من سلبيات فالدمقراطية إذا استطاعت كل ثقافة أن تكيفها وفق خصوصيتها تعتبر في ظل غياب بدائل أخرى أفضل وسيلة مطروحة لتدبير الشأن العام. أوبعبارة أخرى يمكن القول بأن النظام الدمقراطي إذا روعيت فيه الخصوصية سوف يكون أقرب إلى مقاصد الشريعة من مختلف الأنظمة السياسية التي تحكم الوطن العربي على اختلاف مسمياتها.
ومن النتائج السلبية للفشل السياسي العربي هي حصول عجز كبير في مجالين أساسيين وهما : مجال الحريات ومجال سوء التدبير.
>- مجال الحريات : تظهر بعض القديرات(1) أن مستوى الحريات قد عرف تحسنا في جل مناطق العالم (أوربا، آسيا، إفريقيا، أمريكيا الجنوبية) إلا في الوطن العربي الذي عرفت فيه أوضاع الحريات تدهورا خاصة خلال عقد التسعينات
وحسب نفس التقديرات من بين الدول العشرة الأكثر قمعا للحريات توجد خمس دول عربية.
>- سوء التدبير، يتجلى في مستويات عدة ويتعلق الأمر على سبيل المثال لا الحصر بالفجوة الخطيرة في مجال تقدير المسؤولية. فثقافة الاستهانة بالمسؤولية كانت نتيجة لضعف آلية الرقابة القانونية والسياسية والاجتماعية مما يترتب عنه أنماط كارثية في التدبير سواء الاقتصادي أوالإداري كانت نتيجته الحتمية تفشي ظاهرة الرشوة التي أصبحت أصلا من أصول السلوك الإداري وثقافة تعتري معظم المؤسسات. وقد استفحلت ظاهرة الرشوة والزبونية إلى الحد الذي أصبحت فيه النزاهة في العالم العربي ظاهرة مرضية تخرج عن قواعد السلوك العام. وهذا الوضع خلق بيئة مناسبة للانتشار الاجتماعي لثقافة الغش والتدليس والتملص من أي جهد ومسؤولية.
العجز الاقتصادي
في الوقت الذي عرفت فيه بعض الدول نقلة نوعية في أدائها الاقتصادي منذ السبعينات تميز الوضع العربي بالتراجع، ويتجلى في معظم المؤشرات. قبل الحديث عن هذه المؤشرات لا بد من الإشارة إلى خصوصية البنى الإنتاجية لهذه الدول.هذه البنى تأسست على اقتصاديات ريعية (الدول النفطية) واستخراجية للمواد الأولية. وهذا النوع من أنماط الإنتاج يعتمد بالأساس على الخبرة الأجنبية مما يُقلل من آثارها الإيجابية على الاقتصاد المحلي نظرا لضعف الاتجاه نحوجعل الخبرة أكثر محلية ولتخلف الإنتاج التقليدي المحلي. هذا الوضع ساهم في ظهور نمط اقتصادي يعتمد على الإنفاق والشراءعوض الإنتاج.بالإضافة إلى الصناعات الاستخراجية فإن البنى الاقتصادية للعالم العربي تقوم أيضا على الصناعات الاستهلاكية (صناعة فلاحية، نسيج) لكن أهم ما يميز هذه الصناعات هوضعف محتواها التكنولوجي مما يقلل من تأثيرها الاقتصادي. وضعية التخلف الصناعي للعالم العربي تعكسها جليا بنية الصادرات. لمعرفة فعاليات اقتصادها عادة ما يلجأ إلى حساب نسبة الصادرات الصناعية في الصادرات الكلية وكذلك نسبة الصادرات ذات المحتوى التكنولوجي المرتفع. انطلاقا من هذين المؤشرين نلاحظ اعتمادا على معطيات البنك الدولي(2) التي تعطي مقارنة بين المناطق، أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (وهي جزء مهم من الوطن العربي) في أسوء وضع. فنسبة الصادرات الصناعية في هذه المنطقة لا تتجاوز 18% من مجموع الصادرات (أكثر من 80% كلها صادرات أولية). أما الصادرات ذات المحتوى التكنولوجي المرتفع فهي أقل من 0,3% بالمقارنة مع مناطق أخرى نلاحظ أن هذه المنطقة العربية تسجل أضعف النسب فهي أقل بكثير من دول إفريقيا جنوب الصحراء وأقل من مجموعة الدول الضعيفة الدخل.
وكنتيجة لضعف البنى الإنتاجية فإن معظم المؤشرات الاقتصادية تعكس تراجعا منقطع النظير للاقتصاد العربي. ولنأخذ على سبيل المثال بعض هذه المؤشرات.
>- الناتج المحلي الإجمالي : الناتج المحلي الإجمالي لمعظم الدول العربية بلغ سنة 1999 : 531 مليار.
هذا الرقم تحقق دولة أوربية متوسطية أكثر منه (595 مليار). أما إيطاليا فتحقق الضعف. رغم ضآلة هذا المبلغ للمجموعة العربية التي تشمل أكبر الدول النفطية فإن المثير للانتباه هونموهذا الناتج إذ نلاحظ أن نسبة النموالسنوي للناتج المحلي الإجمالي الفردي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كانت أضعف مما هوعليه الحال في مجموعة الدول ذات الدخل المتوسط والضعيف. خلال فترات السبعينات (حيث كانتهذه النسبة أقل من 3% رغم الفورة النفطية) والثمانينات والتسعينات.
>- الإنتاجية : المشكلة العويصة التي تواجه العالم العربي هي تراجع الإنتاجية. فحسب معطيات البنك الدولي نلاحظ أن نسب الإنتاجية (متوسط الإنتاج بكل عامل) كانت سلبية خلال الثمانينات والتسعينات. أما إذا أخذنا الناتج القومي الإجمالي للعامل كمؤشر على الإنتاجية أن هناك فرقاً شاسعاً بين الدول العربية (ما يقرب من 5 آلاف للعامل) وبين كوريا الجنوبية والأرجنتين حيث تصل فيهما الإنتاجية إلى ما يزيد عن 22 ألف.
أما فيما يخص نسبة نموالإنتاجية (الناتج المحلي الإجمالي للفرد العام) فتجدر الإشارة إلى أن زيادتها السنوية ما بين 1980 و1997 قد بلغت في الصين 15%، في كوريا 8%، في الهند 6% أما في العالم العربي فلم تتجاوز بالنسبة لأفضل الدول 4%.
>- سوء توزيع الدخل : يعاني العالم العربي من آفة سوء التوزيع، فالتجارب أثبتت أنسوء توزيع الدخل والثروة لا يمكن أن يحدث تنمية إلا في الدول المنغلقة. أما في الدول المنفتحة كدول العام العربي فإن سوء التوزيع قد ترتب عنه هجرة رؤوس الأموال إلى الخارج، فسوء التوزيع في العالم العربي أدى إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية مما ساهم في انخفاض المردودية، الشيء الذي ساهم في تقليص حجم الطبقات المتوسطة لصالح الطبقات الفقيرة، وهنا يأتي مكمن الخلل الاجتماعي في الوطن العربي. فكلما اتسعت دائرة الطبقة المتوسطة في مجتمع إلا وكان أقدر على رفع التحدي الاقتصادي وذلك بإسهامها في تعميم الأداء الاستثماري وفي تدعيم الطلب الداخلي. فتقليص حجم هذه الطبقة في الوطن العربي أدى إلى ظهور فئة صغيرة من كبار الأغنياء تستحوذ على معظم الثروات وفئة عريضة معدومة مسلوبة الفعل. على الرغم من عدم وجود إحصائيات عربية تعكس حقيقة نسب الفقر فإن كثيرا من المؤشرات لا تعكس فقط النسبة المرتفعةللفقر وإنما أيضا الاتجاه نحواستفحال آفتها، وهذا الوضع لا يساهم فقط في تثبيط الأداء الاقتصادي وإنما ينعكس سلبا على العطاء العلمي والثقافي لأي مجتمع.
التخلف المعرفي والعلمي
المعرفة هي أساس التقدم وكل مجتمع يقاس مستوى التنمية فيه بمدى تعبئة وتنظيم وتسيير النظام المعرفي، وهذا النظام يعاني في المجتمعات العربية من أزمتين : أزمة تخلف هذه المجتمعات وأزمة القيود المجتمعية التي تقلل من تأثيرها وفعالية المعرفة.
العالم العربي يمتلك رصيدا تاريخيا متميزا، فالنهضة العلمية التي أثارتها الحضارة الإسلامية سمحت بتشكيل مجتمع معرفي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، رغم هذا المكسب التاريخي المهم فإن المنطقة العربية تعاني من عجز معرفي كبير ترجع أسبابه إلى عوامل عدة :
> ما يسمى بالنهضة العربية الحديثة كان بمثابة بلقنة فكرية جعلت الساحة العربية تعيش صراعات إيديولوجية بين عدد كبير من التيارات مما أدى إلى فقدان الهوية وإلى انعدام الرؤية.
> انخفاض جودة النظام التعليمي نظرا لغياب استراتيجية تعليمية واضحة ونظرا لضعف التأطير وأكثر الأسلاك التعليمية معاناة هوالتعليم العالي الذي يشكومن قلة الإمكانات ومن الاكتضاض.
> قلة ورداءة المنتوج الإعلامي العربي : يعتبر الإعلام من أهم الوسائل لتعميم ونشر المعرفة لكنه في الوطن العربي لا يؤدي هذا الدور نظرا لعاملين أساسيين. عامل القلة : عدد الصحف لكل 1000 شخص لا تتجاوز 53 في العالم العربي بينما تصل إلى 285 في الدول المتقدمة كما أن عدد المحطات الإعلامية السمعية والبصرية يقل عن المتوسط العالمي وعن متوسط ما هوموجود في الدول ذات الدخل المتوسط..
> عامل الجودة : يعاني الإعلام العربي من ثلاثة معوقات مترابطة تقوض من تأثيره وهي : تردي الجودة، انعدام الاستقلالية وضعف المهنية.
فإذا أخذنا مثلا القنوات الفضائية العربيةنلاحظ أن 70% منها عمومية وأن معظمها يستخدم للدعاية الرسمية، بالإضافة إلى ذلك فإن الإعلام العربي يمتاز بثلاث خصوصيات تتمثل في الميل نحوالسلطوية وأحادية الرأي والرسمية. وهذه عناصر تقلل من تأثيره المعرفي.
> ضعف التجهيز في الوسائل الحديثة لتمرير المعرفة، في المنطقة العربية يوجد أقل من 18 حاسوب لكل 1000 شخص بينما المتوسط العالمي يصل إلى 78. أما استخدام شبكة الأنترنيت فنلاحظ أن عدد المستعملين للشبكة يصل فقط إلى 16% من الساكنة سنة 2001. ويلاحظ أن عوامل التكلفة والوضع السياسي والظروف الاجتماعية كلها تحول دون انتشار هذه الوسائل الحديثة رغم أهميتها في تعميم المعرفة وانتشارها.
> تدني مستوى الترجمة : الغالبية القصوى مما ينتج من معرفة يكتب الآن باللغات الأجنبية (85% من الإنتاج العالمي الحالي يكتب باللغة الإنجليزية). فضعف إتقان اللغات الأجنبية في المنطقة العربية يجعل الحاجة ماسة إلى الترجمة للاستفادة من كل المسجدات المعرفية والعلمية، ولذلك أعطت الدول المتقدمة أهمية قصوى للترجمة حتى الولايات المتحدة التي يكتب 85% من الإنتاج المعرفي بلغتها، تحرص على ترجمة كل إنتاج علمي مكتوب بلغة أخرى. أما اليابان فتقوم بترجمة 30 مليون صفحة سنويا. أما الوطن العربي الذي يطرح فيه إلزامية الترجمة بشكل حيوي فالوضع يختلف تماما حيث نلاحظ أن ما يترجم في سنة داخل الوطن العربي كله لا يمثل إلا خمس ما تترجمه اليونان، وقد قدر شوقي جلال(3) ما ترجم من كتب منذ عهد المامون إلى يومنا هذا بـ 10.000 كتاب أي ما يوازي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة. أما في النصف الأول من الثمانينات فقد ترجم في الوطن العربي سنويا أقل من كتاب لكل مليون شخص بينما وصل هذا العدد إلى 519 في المجر و920 في إسبانيا.
وقد ترتب عن هذا الوضع ضعف حاد في الإنتاج المعرفي، إذا أخذنا الإصدارات العلمية نلاحظ أن عدد هذه الإصدارات بلغ سنة 95، 26 إصداراً بينما وصل في فرنسا إلى 840. ويتزايد عدد هذه الإصدارات بوتيرة ضعيفة جدا، من سنة 81 إلى 85 ازداد عددها بـ 2,4 مليون مرة فقط بينما ازداد في الصين بـ 11 مرة وفي كوريا الجنوبية بـ 24 مرة، بالإضافة إلى أن هذه الإصدارات تغيب عنها مجالات الأبحاث المتطورة كتكنولوجيا المعلومات Biologie Moléculaire. كما أن هذه الإصدارات لا تحمل قيمة علمية إضافية نظرا لقلة الإحالة عليها. ففي سنة 87 ثلاث أبحاث عربية أحيل عليها 40 مرة بينما في الولايات المتحدة ثمة 10481 بحث أحيل عليها أكثر من 40 مرة.
وهذا ناتج عن سياسة الإهمال التي حظي بها البحث العلمي في الوطن العربي حيث نلاحظ أن عدد العلميين والمهندسين المنخرطين في مجال البحث والتنمية (Recherche – développement) لا يتجاوز 400 فرد لكل مليون شخص في عشرية التسعينات، هذا العدد يصل إلى 4000 في أمريكا الشمالية و2800 في أوربا وتقريبا 1000 كمتوسط عالمي. وهذا الإهمال راجع إلى ضعف الاستثمار في مجال البحث والتنمية (R-D) الذي لا يحصل إلا على نسبة 0,2% من الناتج الوطني الإجمالي بينما تتراوح هذه النسبة في الدول المتقدمة ما بين 2,5 و5%.
أما في المجالات الفكرة الأخرى كالفن والأدب مثلا فإن إنتاج العالم العربي هزيل أيضا. ففي الوقت الذي تمثل فيه ساكنة العالم العربي 5% من ساكنة العالم نلاحظ أن حصته في إصدار الكتب تقل عن 1,1%. أما في مجال الأدب والفن فإن هذه الحصة لا تتجاوز 0,8% سنة 96 وهذه النسبة تقل عما تنتجه تركيا التي تقل ساكنتها عن ساكنة العالم العربي بأربع مرات.إضافة إلى أزمة الإصدار فإن الكتاب العربي يعاني من أزمة في التوزيع. ففي ساكنة عربية تصل إلى 270 مليون نسمة فإن متوسط ما يصدر من نسخ من كل كتاب يتراوح بين 1000 و3000 نسخة. وهذا ليس ناتجافقط عن ارتفاع نسب الأمية وعن ضعف القوة الشرائية وإنما بالأساس عن تراجع في عدد القراء مما أدى إلى انخفاض الطلب عن الكتاب. وهذا لا يتناسب مع أمة أول ما نزل من كتابها إقرأ.
خاتمـــة
أمام التحديات الكبرى التي يواجهها العالم الإسلامي بصفة عامة والعالم العربي على وجه الخصوص، نلاحظ أن عناصر الدفع الحضاري التي ذكرناها (السياسي – الاقتصادي – الثقافي) تفتقد إلى كل مقومات المواجهة من أجل البقاء. وهذا العجز يمكن أن يفسر بوجود شرخ كبير في الوطن العربي بين القرار السياسي الذي أصيب منذ عقود بداء فقدان الذاكرة الحضارية وبين المسار الاجتماعي الذي أصيب بداء فقدان الهوية الحضارية. كثير من الناس يقول بأن المسلمين يملكون العقيدة. أكيد أن دائرة الفعل الوحيدة التي بقيت عند المسلمين هي العقيدة إن فعل دورها. لكن أداءها يبقى محدودا إذا لم يواكبها فعل حضاري. نملك عقيدة لكننا نتعامل بسلوك حضاري ينفي آثارها. ومواكبة الفعل الحضاري هوما تقصده الآية الكريمة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. ولا يمكن لأمة أن يكون لها فعل حضاري إذا كان النفاق قاعدة سلوكها السياسي والغش أساس ممارستها الاقتصادية والعقم خاصية أدائها الثقافي، وهذه خاصيات تنطبق على وطننا العربي. وهذا الوضع يؤهلنا في زمن العولمة إلى مرتبة القابلية المتعددة، فإذا كان مالك بن نبي في عهده قد تحدث عن قابلية واحدة وهي القابلية للاستعمار، فإن عصرنا العربي يتميز بقابليات متعددة : القابلية للتأثر، القابلية لاستهلاك كل شيء، القابلية لانعدام رد الفعل، القابلية للتصفيق لكل شيء. وهذه القابليات تجعلنا في مرتبة أدنى من قابلية مالك بن نبي.
————-
1- UNPD (2003), Arab Human Development Report : Building Knowledge, Society. p 28
2- World Bank (2002), World Developpement, Indicators Waschinton. DC
3- (2003) UNPD.
د. عبد الله الحسيني