أذكر أنني في يوم من أيام الشتاء القارس بفاس، وما أدراك ما لساعة برد فاس وقساوته حين تلوح عمائم جبال الأطلس البيضاء التي تطل بعض قممها على مدينة فاس ؛ قلت في يوم من هذه الأيام ولعله يوم الإثنين 15 ديسمبر 1977م وعطلة الطور الأول من السنة الدراسية على الأبواب، توجهت إلى مدينة فاس لتصوير ونسخ حصيلة المحاضرات والدروس لشهري نوفمبر وديسمبر، وبينما كنت أنتظر، عند مكتب شعبة اللغة العربية بكلية الآداب ظهر المهراز، أحد أصدقائي الذي كان يزودني بالمحاضرات، والساعة تقترب من الثامنة صباحا وإذا برجل أسمر اللون ينزل في ساحة الكلية من سيارة بوجو 404 ذات اللون الأخضر الداكن الذي يميل إلى الزرقة، ثم صعد سلم الطابق الأول ليدنو من باب مكتب شعبة اللغة العربية فحياني بلهجته السودانية التي لم تَخْفَ عني منذ البداية، وسألني والابتسامة تعلو محياه :ألم يحضروا بعد لفتح مكتب شعبة اللغة العربية!!، فظننته زائرا للكلية مما جعلني أقول له إن الموظفين الإداريين لا يحضرون إلا بعد الثامنة والنصف، فوقف بجانبي نتجاذب أطراف الحديث دون أن أتجرأ على سؤاله، وإذا به يقول لي : في نيجيريا الموظفون الإداريون يحضرون قبل الأساتذة وقبل الشروع في الدراسة، مما جعلني أظن أنه من هذا البلد الذي كنت لا أعرف عنه شيئا فقلت له : وهل حضرتكم من نيجيريا، قال لي أنا من السودان ولكنني اشتغلت في بلاد الهوسا بالتدريس في الجامعة هناك، وهو ما فتح لي شهية الكلام لأقول : وهل نيجيريا يتكلمون العربية ويتدينون بالإسلام؟؟ فضحك ضحكة أظهرت نواجذه وأضراسه فقال لي : ألا تعرف شيئا عن نيجيريا هذا البلد الإفريقي ؟ قلت لا ياسيدي! فالذي أعرف عنه شيئا هو النيجر المحاذي لبلاد تشاد فازداد ضحكا ليقول : كلاهما انتشر فيه الإسلام، وخاصة شمال نيجيرياالتي كانت لها علاقة طيبة معكم ههنا في الأزمنة الغابرة . هنا سكت فاسترسل هو في حديث يشبه المحاضرة عن هذا البلد مدة تزيد على ربع الساعة إلى أن حضر الصديق الذي كنت أنتظر وهو طالب معنا في السنة الأولى من السلك الثاني، وهو أيضا من السودان يدعى المسلمي الزين موسى، فحيانا وظن أنني أعرف المتحدَّث معه، وإثره حضر أحد الأساتذة فرافقه إلى مكتب الشعبة، وبقيت في الحديث مع صديقي الطالب السوداني فقال لي كيف تعرفت على أستاذنا الدكتور عبد الله الطيب، فقلت له : وهل هذا أستاذنا حاليا ؟ لأنه كان قد قدم حديثا ولم تسمح ظروفي أن أحضر دروسه يوم الأربعاء، بينما كان حضوري في الغالب أيام السبت أو الإثنين حسب الجدول الزمني للحصص التي أشتغلها في إعدادية ابن القاضي بوجدة.
كان هذا أول لقائي بمؤلف كتاب المرشد إلى فهم أشعار العرب الذي عرفناه وكان من مراجعنا الأدبية في المركز التربوي وأثناء انتسابي إلى الكلية . وفي مساء نفس اليوم التقينا به وهو ذاهب لإلقاء المحاضرة بقسم الأدب الإنجليزي فحضرنا لقاءه في موضوع ” نظرة المستشرقين إلى أسلوب بيان القرآن الكريم ” والشعر العربي .فعلى مدى ساعة ونصف وهو يحاضر في الموضوع يستطرد ويعود ويتجول في كتابات المستشرقين يستظهرها عن ظهر قلبه يترجم عباراتها إلى العربية وقد ركز على كتاب ديفيد صمويل مرجليوث ” محمد ونشأة الإسلام “الذي نشره سنة 1905م .وكانت هذه المحاضرة أول لقائي بالأستاذ الدكتور عبد الله الذي سحرني وكافة الطلبة بقوة فصاحته وسلاسة أسلوبه وقوة ذاكرته بحيث لم يتصفح ورقة واحدة على مدى ساعة ونصف، ولم يتوقف عن الكلام كأننا نقرأ كتابا في سلامة أسلوبه وجزالة لغته وارتباط أفكاره .يضاف إلى ذلك قوة استذكاره لنصوص بالإنجليزية وترجمتها إلى العربية مباشرة وبأسلوب العرب القدامى .
ومنذ ذلك الحين حضرت عددا كبيرامن محاضراته، وسجلت ما سجلت بقلمي، كما أنني ما زلت أتوفر على المحاضرات التي هيأها لنا من ذلك :
_ محاضرات في الأدب الجاهلي.
_ ذكر الجزيرة العربية.
_ شيطان الشعر .
وغيرها من المحاضرات التي لم أعد أتذكرها.
وتستمر اللقاءات بهذا العالم الأديب الذي كنا نعجب من فصاحته في محاضراته وطول نفسه في الإلقاء وتواضعه وابتسامته المعهودة.
وبعد سنوات الإجازة تشاء الظروف أن أهيئ شهادة استكمال الدروس في الأدب القديم، وكان من أساتذة هذا التخصص إلى جانب أستاذتنا د.ابتسام الصفار ود. فخر الدين قباوة، ود. الشاهد البوشيخي ود. المرحوم عبد اللطيف السعداني وكان المرحوم د. عبد الله لطيب بينهم سهيل الكلية وشمسَها . وهنا ارتبطت العلاقة بيني وبينه، وكنت أزوره في بيته كلما سمحت لي الظروف. وما زلت أحتفظ بمحاضراته التي سجلتها في السلك الثالث، وهي كلها تتعلق بالأدب الجاهلي والإسلامي .
وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة أخرى في الدراسات العليا تجمعني به، ويتعلق الأمر بقسم تكوين المكونين لمدة سنتين، وكنت سأسجل رسالة دبلوم الدراسات العليا تحت إشرافه بعد مغادرة أستاذنا الدكتور فخر الدين قباوة المغرب، لكنه نصحني أن لا أسجل الموضوع تحت إشرافه لأنه على وشك فسخ العقدة مع جامعة محمد بن عبد الله لأسباب تجعله مضطرا لمغادرة المغرب، والالتحاق بالسودان بعد الانقلاب على جعفر النميري . وقد نصحني أيضا، رحمه الله، أن أتحول إلى أدب الغرب الإسلامي لأنه ما زال بكرا وهو ما جعلني أسجل رسالتي تحت إشراف أستاذي الدكتور عبد السلام الهراس أطال الله في عمره.
ومما تحتفظ به ذاكرتي أن المرحوم كان هو المشرف على أول رسالة دبلوم الدراسات العليا لأستاذ باحث من كليتنا بوجدة، ويتعلق الأمر بأخينا الدكتور حسن الأمراني وقد ناقشها في 23 من شهر فبراير 1981 في موضوع “دراسة شعر قيس بن الخطيم “، ولا أنسى ذلك اليوم حين احتفل المرحوم د. عبد الله الطيب بأهل وجدة الذين حضروا مناقشة الأستاذ حسن الأمراني في منزله فأكرم وفادتهم مع لجنة المناقشة التي تشكلت من أستاذنا الدكتور فخر الدين قباوة والدكتور عبد السلام الهراس وجملة من أساتذة كلية وجدة، وكان – رحمه الله- يقوم بخدمة ضيوفه بنفسه. كما شارك أيضا في مناقشة أول رسالة جامعية هيأها باحث من هذه الكلية في النحو العربي، وكان كثير الإعجاب بها، إذ قال يوما بأنني لأول مرة أشارك في مناقشة أطروحة في النحو بالمغرب، ويتعلق الأمر برسالة أخينا الأستاذ الدكتور مصطفى بنحمزة التي نوقشت بكلية الآداب بالرباط في شهر نوفمبر 1984م .
كما حاضر أكثر من مرة في مدينة وجدة منها محاضرته الني تركت صدى واسعا لدى طلبة الجهة الشرقية في موضوع ” أضرب الشعر ودوافعه بين الشاعر والمجتمع بقاعة بلدية وجدة بتاريخ :28/11/1979، وكان ذلك اليوم مشهودا في قاعة بلدية المدينة وكانت كليتنا، آنذاك، لم يمض على تأسيسها أكثر من سنة(1).
وكان رحمه الله يتعاطف كثيرا مع كليتنا الفتية آنذاك، وكما أسَرَّ إلي شخصيا بمنزله بفاس. كما استدعي إلى هذه الكلية فألقى محاضرتين بتاريخ:21/04/1982 الأولى في موضوع أثر الأدب العربي في الأدب الإنجليزي، والثانية في موضوع ” طرق تدريس القرآن عند القدماء ” والمحاضرتان ستنشران_ إن شاء الله ضمن أعمال هذه الندوة .
بذلك فإنني كنت على اتصال وتواصل بهذا الرجل الذي نحتفظ له بكثير من مكارمه، وفي مقدمتها محاضراته التي تأثرنا بمضامينها وأسلوبها وما زالت تجري في أذهاننا ثم نقلناها نحن بدورها إلى طلبتنا بطريقة غير مباشرة.
وكان آخر لقائي به مباشرة يوم انعقاد جلسة تكريمية له بكلية ظهر المهراز بمناسبة انتهاء عمله بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في آخر السنة الجامعية بمعية إخواني الأستاذعبد الرحمن حوطش الذي ألقى كلمة باسم أساتذة كلية الآداب بوجدة والأستاذ مصطفى بنحمزة والأستاذ أحمد حدادي، وكنا قد سافرنا معا إلى فاس لحضور تكريمه في اليوم السادس من شهر يوليوز سنة1986م، وكان من الذين ألقوا كلمتهم الأستاذ أحمد بنشقرون عميد كلية الشريعة، والأستاذ عبد الوهاب التازي عميد كلية الآداب والدكتور عبد السلام الهراس رئيس شعبة اللغة العربية بنفس الكلية.
ولشدة محبة الدكتور عبد السلام الهراس للدكتور عبد الله الطيب لم يستطع إنهاء كلمته من شدة الدموع التي كانت تنهمر على خدية حتى صاح فجأة بأعلى صوته من حيث لم يشعر : كان عبد الله الطيب مغربيا وسيبقى مغربيا أحب من أحب وكره من كره!!!
فرحمة الله عليك يافقيدنا وأستاذنا وحبيبنا الدكتور عبد الله الطيب، وجعل ذكراك هذه حياة ثانية لك بيننا إلى أن نلقاك عند ربنا يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا. والسلام عليك يوم كنت حيابيننا، والسلام عليك يوم لقيت ربك، والسلام عليك حين ستبعث حيا. ونم قرير العين يافقيدنا، فإن طلبتك ومحبيك من زملائك ما يزالون يتذكرونك كأنك ما زلت بينهم في كلية الآداب بفاس!!!
————
1- ما زلت أحتفظ بهذه المحاضرة مسجلة على شريط صوتي كما ألقاها رحمه الله .
د.مصطفى الغديري