تقديم
العمل الجمعوي هو نشاط تطوعي ومنظم تقوم به مجموعة أفراد داخل مؤسسة تسمى ناديا، جمعية، أو منظمة…، وقد تختلف أسماء هذه المؤسسة، لكن أهم ما يميزها جميعا هو اجتماع أفرادها حول أهداف مشتركة أو على الأقل متقاربة يعملون جميعا على تحقيقها.
بهذا التعريف البسيط يكون العمل الجمعوي حلقة جديدة ومتميزة في سلسلة أشكال وتجارب الانتظام الإنساني عبر التاريخ، حيث عرفت البشرية خاصة نوعين واضحين من هذه الأشكال :
< التسيير الشعبي : والمقصود منه ذلك النشاط الجماهيري الذي عرفته في لحظات معينة من سيرها، والذي يتميز غالبا برد الفعل والعفوية وضبابية الهدف من جهة، وباتساع القاعدة، وجدية العمل واتساع الشورى من جهة أخرى.
< التسيير الرسمي : والمقصود منه وجود هيئة أو جهاز كالقبيلة أو الدولة أو غيرها للقيام بعملية التسيير وتوجيه النشاط البشري بمختلف أنواعه داخلالمجتمع، وهو الشكل الذي نلاحظه مسيطرا على مجتمعاتنا المعاصرة. ويتميز هذا النوع من التسيير بالتخطيط والانتظام واعتماد جهاز الإدارة والمسؤوليات من جهة، والبيروقراطية والنخبوية والتسلط من جهة أخرى.
ويتميز العمل الجمعوي عن هاتين المدرستين ليس فقط بكونه تجربة جديدة، بل أيضا لأنه استطاع أن يستفيد من النوعين، وأن يجمع بين إيجابية العمل الرسمي المتمثلة في الانتظام والتسيير الإداري، وإيجابية العمل الشعبي المتمثلة في اتساع القاعدة والشورى وحرارة العمل والعطاء.
كما استطاع أن ينفلت من سلطوية وبيروقراطية العمل الرسمي، وفوضوية العمل الشعبي. غير أن هذه المقاربة للعمل الجمعوي من خلال العمل الرسمي، لا تعني أبدا اعتباره بديلا عنهما أو لاغيا لوجودهما، بل لكل ميدانه ودوره.
خصائص العمل الجمعوي
< إنه عمل تطوعي : من حيث أن أفراده إختاروا طواعية وعن اقتناع الاندماج في هذا المشروعوالالتزام بقوانينه وأهدافه دون تكليف أو تعيين، الشيء الذي لا يعطي مفهوما فوضويا وسلبيا لكلمة “تطوعي” ذلك أن التطوعية أمر متعلق كما قلنا بولوج المؤسسة، جمعية كانت أو غيرها، واختيار المهمة ومقدار العطاء في إطارها فقط، أما عملية مباشرة النشاط والقيام بالدور المنوط بالمتطوع والذي التزم به فهذا أمر إجباري ضروري يفرضه عقد الاجتماع، وأخلاقيات العمل المشترك، وإتقان العمل.
< وهو عمل منظم: ذلك أن العمل الجمعوي يدخل في إطار ما يسمى بالمجموعات المنظمة بعكس المجمعات العفوية المميزة ببرودة العلاقة بين عناصرها واختلاف أهدافهم. أما العمل الجمعوي فيفترض أن تكون الأهداف مشتركة أو متقاربة على الأقل، وأن يكون التسيير منظما وموزعا ومخططا في إطار من التعاون والمبادرة المسؤولة. كما لا يشفع لنا مصطلح”التنظيم” لأن نجعل المؤسسة إدارة جامدة، ونجعل الأهداف آراء فردية مفروضة من طرف فردأو حتى جماعة. بل لابد أن تكون هذه الأهداف هي أهداف المجموع، الأمر الذي يتطلب وضوحها والاتفاق حولها وتدارسها بجدية، فالفرد داخل الجمعية لا يتلقى عن مجهوده أي مقابل مادي أو معنوي، وبالتالي يبقى سر اهتمامه ومضاعفته لجهده والتحامه بالجمعية هو رؤيته لثمرات نشاطه وتحقيق أهدافه.
طبعا دون أن يعني هذا تعصب كل منا لآرائه وحرصه على تحقيق أهدافه منفردا، وإلا أدى هذا إلى خلل وفوضى داخل الجمعية. بل لابد من الاتفاق كما قلنا حول أهداف مشتركة واندماج مشروع الفرد في مشروع الجمعية عامة .
مجال العمل الجمعوي
العمل الجمعوي هو عمل جماهيري حتى ولو كان أكاديميا، ذلك أن أهدافه النهائية تصب في خدمة المجتمع، لهذا يمكن اعتباره عملا تغييريا شاملا.
< فهو عمل تغييري، لأنه يطمح إلى تغيير وتنمية المجتمع واستبدال العلاقات والسلوكات السلبية بأخرى إيجابية من خلال تبني رواد الجمعية لها. وبهذا فدور التغيير ليس سلبيا هنا، بل هو تغيير بناء واندفاع نحو الخيرية والصلاح:”فردا، علاقات ومجتمعا”.
< وهو عمل شامل، لأنه يلامس جميع جوانب المجتمع، فأنت تجد مؤسسة تهتم بالعمل الثقافي، أخرى بالعمل التربوي أو الاجتماعي أو الفني..
كل هذا يجعل علاقة العمل الجمعوي بالمؤسسات التغييرية الأخرى داخل المجتمع جد حساسة” خاصة المؤسسة التعليمية، السياسية ، والإعلامية” بحيث تكون إما علاقة تكامل وتعاون، أو علاقة صراع وتدافع، خاصة وأن مهام هذه المؤسسات تتداخل وتشتبك فيما بينها.
عناصر القوة في العمل الجمعوي
تحكم العمل الجمعوي أسس كثيرة تعطيه فاعليته وقوته ونذكر منها خاصة :
< الإدارة: وهي” عملية توجيه أفراد، لطاقات وأعمال أفراد آخرين وإمكانات مادية وفكرية لبلوغ هدف محدد بأقل تكلفة وأكثر إتقان وأقل وقت في إطار من التفاعل والانسجام بين أفراد المجموعة”
إن هذا الشرط العملي:”الإدارة” عندما ينسجم مع الشرط النفسي”الإرادة” يعطيان قوة ونتائج مهمة تتجاوز العراقيل وحواجز العقلية الإدارية.
< تحديد الأهداف: لا مجال للحديث عن عمل جمعوي دون أهداف، لأنه كما قلنا هي أصل تطوع هؤلاء الأفراد لتأسيس هذه المؤسسة. وتحديد الأهداف يساعد على معرفة الواقع ومتغيراته وطاقات الأطر واستعداداتهم، الشيء الذي لا يدفع بالجمعية في مشاريع حالمة كما يساعد على القيام بعملية التنفيذ والمراقبة والتقويم.
< التصاعد الطبيعي: المقصود منه ارتقاء الفرد داخل الجمعية وتسلمه للمهام، ذلك أن العمل الجمعوي يتطلب انصهار الفرد في عمله بالجمعية، وتحقق اندماج نفسي وفكري للفرد، وهذا لن يتم إلا بهذا التصاعد التدريجي الطبيعي، طبعا دون اعتباره حاجزا لتعطيل الطاقات الجاهزة أو عرقلة حركية وحيوية الجمعية.
< اتساع درجات الانتماء والقدرة على العمل: إن العمل الجمعوي بطابعه التطوعي يعطي هذه الإيجابية، حيث للفرد الحرية في اختيار دائرة عمله ومساحتها وطبيعتها، فقد يكتفي بمهمة إدارية، فكرية أو تنفيذية أو”عملية ” علمية، وقد يجمع بينها وقد يكتفي بدور صغير أو كبير.
< ا لسلطة : والمقصود منها القوانين المنظمة للجمعية، ومفهوم السلطة هذا ليس سلبيا، بل يجب الحديث عن سلطة الاتفاق والثقة وليس سلطة القوة والإكراه.وتطبيق قوانين الجمعية ونجاح هذا التطبيق أمر يعطي للجمعية هيبتها ووجودها، وأمر يجب أن يُفرح كل عنصر داخل الجمعية، خاصة ذلك الذي طبق القانون ضده.فقوانين الجمعية ليست سلاحا في أيدي المكتب المسير، وليست امتيازا له، بل هي قوانين الجمعية وفوق جميع أطر وعناصر الجمعية.
أهداف العمل الجمعوي
تحدثنا عن دور العمل الجمعوي في التغيير والمساهمة في بناء المجتمع الصالح، لكن تبقى هذه الأهداف مرتبطة بشكل وطبيعة هذا العمل الجمعوي واختصاصه الثقافي، الاجتماعي، التربوي أو الفني…
ولكن رغم هذا يمكننا الحديث عن أهداف ترتبط بالثقافة عامة بحكم أنها تجسد روح المجتمع.
< اندماج الفرد في المجموع: حيث تعمل الجمعية على تكوين أفراد اجتماعيين، يتميزون بتحقيق ذواتهم ومعرفتها، وبخدمة المجتمع والانصهار فيه، وبهذا تصبح الجمعية مدخلا جماعيا لبناء الفرد.
< هيكلة المجتمع: حيث بتكاثرها وتنوعها تصل إلى تأطير المجتمع وتنظيمه في نوع من العطاء والعمل حتى تصبح هذه الجمعيات هي الهيكل الحقيقي للمجتمع ومدخلا فرديا لتكوين المجتمع.
< تحويل المواضيع إلى مشاريع: عن طريق العمل المباشر وتفكيك الثقافة إلى سلوكات عملية، أي تصبح الثقافة تربية بفهومها الشامل. لكن هذا لا يعني استغناء العمل الجمعوي عن الثقافة العالمة:”الأكاديمية” لصالح الثقافة الاجتماعية، بل العمل على إخراج تلك الثقافة العالمة من سلبيتها، وإحياء فعاليتها، فدور العمل الجمعوي إنتاج الثقافتين في تفاعلهما،وتكوين الأطر المتخصصة ولكن أيضا الرأي العام.
< الانتقال من خطاب الرغبة إلى ممارسة الممكن : أي مع الحرص على رغباتنا المشروعة وأهدافنا الكبرى، يدفعنا العمل الجمعوي بفضل إجرائيته، إلى ممارسة ما يمكن في إطار خطوات متناسقة وثابتة تساعدنا على تحقيق تلك الرغبة بعيدا عن منابر الخطابات والشعارات والعواطف.
هذه بعض الأهداف العامة، لكن تبقى فاعلية العمل الجمعوي كبيرة وإمكاناته متعددة، فهو قناة حضارية لتغيير المجتمع ونشر ثقافة التَّجَنُّد والوعي والإنجاز.
يظهر من كل هذا أن مناخ العمل الجمعوي هو مناخ منفتح غير منغلق، تسوده العلاقات الإدارية والعلاقات الإنسانية، والعمل المخطط له، والعمل التطوعي ،و التركيز والاتساع.
ذ.مصطفى اشعايب